منصة الصباح

باختصار.. غِيَابُ الطُّلّابِ… وَضَيَاعُ الأَسْبَابِ

  د. علي عاشور

 في معظم الكليات والجامعات الليبية تعقد مناقشات الأطروحات والرسائل العلمية بشكل دوري، وهو أمر محمود يشير إلى استمرار النشاط الأكاديمي ويبعث على التفاؤل، إلا أنها مناقشات ضعيفة من حيث الحضور، وخصوصاً من طلاب الدراسات العليا، الأمر الذي يثير تساؤلات كثيرة ومقلقة في الآن نفسه.

كثيراً ما تقام هذه الجلسات في قاعات شبه فارغة، يحضرها أعضاء لجنة المناقشة والحكم، وعدد قليل من أصدقاء وأسرة الباحث فقط، بينما يغيب أولئك الذين يفترض أن يكونوا الأكثر حرصاً على الحضور لاكتساب المعرفة النقدية التي تعزز أبحاثهم المقبلة.

الأمر اللافت للانتباه أن بعض الطلاب لا يحرصون حتى على حضور مناقشات زملائهم في نفس التخصص، وكأن لا علاقة لهم بما يدور في محيطهم الأكاديمي، وكأن البحث العلمي جهد شخصي لا يستفيد من التفاعل أو التعلم من تجارب الآخرين.

الغريب أن بعض طلاب الدراسات العليا لا يحضرون المناقشات العلمية إلا إذا وجهت لهم دعوة من الطالب المناقِش، وكأنها مناسبة اجتماعية خاصة، لا جلسة علمية مفتوحة. وهذا سلوك غير منطقي، لأن اللوائح والقوانين الأكاديمية اشترطت أن تكون جلسات المناقشة علنية عن قصد، ليتمكن باقي الطلبة من الحضور والاستفادة، إذ أن هذه الجلسات صممت لتكون فرصة تعليمية جماعية، لا نشاطا مغلقا على المعنيين به فقط، ومن ينتظر دعوة لحضورها، يجهل قيمتها الحقيقية ويفوت على نفسه خبرة لا تعوض.

هذا التجاهل يعكس أزمة عميقة في البيئة الأكاديمية الليبية، حيث تحولت الجامعات في كثير من الأحيان إلى مصانع للشهادات، ينهمك فيها الطالب بإنجاز بحثه الخاص دون اهتمام بما يدور حوله.

الكثير من الطلاب لا يدركون أن حضور جلسة مناقشة واحدة، سواء رسالة ماجستير أو دكتوراه أو جلسة مناقشة الخطط والمقترحات (سيمينار)، يمثل وجبة تعليمية دسمة تعزز فهمهم لمنهجيات البحث وتفتح لهم آفاقاً نقدية مهمة، وأن غيابهم عن حضور مثل هذه الجلسات، سيؤدي بالضرورة إلى ضعف كفاءتهم البحثية، وسيخيب ظنهم أن اكتساب المهارات يأتي تلقائيا بمجرد إنهاء المقررات الدراسية.

الأغرب من ذلك، أن بعض الأساتذة والمسؤولين عن برامج الدراسات العليا في كلياتنا الليبية ينسون حت طلابهم على حضور مثل هذه المناسبات العلمية، ظانين أن نهاية المقررات هي نقطة البداية في كتابة البحث دون التأكد من جاهزية الطالب المنهجية والمعرفية.

لذا، نجد أن كثير من الطلاب ينهون المقررات التمهيدية ثم يقفون عاجزين عن اختيار موضوع بحثي أو يباشرون الكتابة دون إلمام بالخطوات التطبيقية لما أخذ في مواد المنهجية، فتراهم يخطؤون حتى في تحديد الإشكالية أو طريقة توثيقهم مراجعهم العلمية، رغم مناقشتها مراراً في جلسات المناقشة.

لهذا السبب، فرضت جامعات عربية وعالمية حضور طلاب الدراسات العليا عدداً معيناً من جلسات المناقشة كشرط للتخرج، إدراكاً منها أن التكوين البحثي لا يكتمل بالقراءة فقط، بل بالحضور والمشاركة الفاعلة في بيئة علمية حية.

غياب طلاب الدراسات العليا وهم المستفيد الأول عن جلسات المناقشة، سينتج بالضرورة مناقشات جافة تفتقر إلى الحيوية، وبحوث تكرر الأخطاء نفسها؛ لأن أحداً لم يستفيد من ملاحظات اللجان السابقة، فضلاً عن ضياع فرص لبناء شبكات علمية متينة، إذ أن حضور المناقشات وسيلة للتعارف وتبادل الخبرات بين الباحثين.

في النهاية، هذا الغياب لا يمكن اختزاله بسلوك فردي، بل هو جزء من خلل أعمق في الثقافة الأكاديمية الليبية، فعندما يصبح “الحصول على الدرجة هو الهدف الأوحد، وتختزل الجامعة إلى محطة عبور نحو الشهادة، يتحول طلاب الدراسات العليا إلى أرقام تنتظر دورها للصعود على منصة المناقشة ثم تختفي بلا أثر.

 

شاهد أيضاً

هاشم شليق

ليبيا والرسوم الجمركية الأميركية

هاشم شليق ذكر الرئيس الأميركي ترمب للقادة الأفارقة الخمس في البيت الأبيض “أنتم تنحدرون من …