باختصار
شاهدنا منذ أسبوعين تقريباً ما حدث في أحد أحياء جنوب طرابلس، مشهد قاسي، موثق بالصوت والصورة، مجموعة من المراهقين يهاجمون فتى قيل إنه يتيم، ينهالون عليه بالهراوات والشتائم، وهو يستجدي الرحمة التي لم تكن في قاموسهم، بينما أحدهم يوثق انهيار قيم الإنسانية بكاميرا هاتفه، كأنه ينتج محتوى يستحق المشاركة والإعجاب… لا الحساب والعقاب.
لم تمر أيام قليلة حتى ظهر لنا مشهد أكثر عنفاً وقساوة، جريمة أكثر بشاعة، مجموعة شباب يرتدون زياً عسكرياً، ينتمون إلى إحدى العصابات الإجرامية، أقدموا على اغتصاب شاب، مع تصوير الجريمة دون خجل أو وجل.
مشاهد سحقت فيها الإنسانية، وتحولت الكاميرا إلى أداة إذلال لا وسيلة للتوثيق، والزي الرسمي إلى غطاء للجريمة لا رمزاً للنظام والقانون.
هذه ليست مجرد حوادث فردية، بل إشارات مقلقة لانفلات أخلاقي وتربوي كبير، إشارات تهدد الأساس النفسي والاجتماعي للأجيال القادمة، جيل جديد يتغذى على العنف بدل التسامح، يخلط بين الرجولة والعدوان، ويحتفل بالاستقواء بدل الاحترام. فمن علمهم كل هذا؟ ومن سكت حتى صار المشهد مألوفاً عند الكثيرين؟
البيوت تحولت إلى فنادق للنوم أو ساحات شعار بين الوالدين أو بين الإخوة، والمدرسة لم تعد تصنع وعياً، بل تمرر مناهج ممسوخة، أما المسجد فمغيب تماماً، ضاعت رسالته بين خطيب ضعيف وموضوع خطبة أضعف.
ووسائل الإعلام، بدل أن تكون مرآة للضمير، انشغلت بتكريس التفاهة، تلهث خلف (الترندات)، وتصنع الأبطال من منشورات السخافة.
أما التربية فقد تلاشت أمام سطوة المحتوى المسموم. الطفل لم يعد يرى في الأب قدوة… بل صوتاً غاضباً، ولا في الأم حناناً…. بل تعباً صامتاً، وبين شاشات الهواتف ومنصات التواصل الاجتماعي، نشأ جيل يستهين بالألم، يصفق للعنيف…. ويستهزئ بالخجول.
لطالما تبادر في ذهني سؤال: لماذا نحن شعب عنيف؟ لماذا تميل مشاعرنا للعدوانية بسهولة، بينما يصعب علينا بناء جسور العفو والتسامح؟، لماذا بيننا من يستطيع أن يكرهك في لحظة، لكنه لا يغفر لك في عقد؟ هل الأمر في جيناتنا نحن الليبيين؟ أم في بيئتنا؟ أم في ميراث لم نتمكن من غربلته؟ نحن لا نحمل الضغائن فقط، بل نربيها ونحرسها ونخاف عليها كأنها كنوز، بينما التسامح عندنا مشبوه، والتفاهم متهم بالضعف.
والنتيجة؟ ها هي أمامكم أيها الليبيون، بتنا مجتمع يرى العنف أمر غير مستغرب، اللوم لا يقع على الطفل الذي يميل للعنف حتى في اختيار ألعابه، بل على النظام المجتمعي الذي لم يقم بتربيته، على البيت الذي لم يحتضنه، والمدرسة التي لم تهذبه، والمسجد الذي لم يخاطب روحه، والإعلام الذي يغذي هذه الأفعال ولا ينبذها.
الجميل – وسط هذا القبح – أن الجهات الأمنية تحركت وألقت القبض على بعض الجناة، لكنها خطوة في طريق طويل، لأن إمساكنا باليد لا يكفي إن تركنا العقول فريسة للجهل، والقلوب مرتعاً للقسوة.
ما حدث لم يكن حادثة عابرة ولا مجرد إنحراف سلوكي وأخلاقي، بل عينة لجيل يرقص على إيقاع (حبك سفاح- وكانك راجل خش لبوسليم)… فماذا تنتظرون منه غير الذي فعل؟
نحن أمام جيل يحتفل بتعنيف اليتيم، ويوثق اغتصاب أخيه، كأنها انتصارات وطنية. لا نحتاج إلى صدمات أبشع لنصحو، بل إلى منظومة تربوية تعيد صياغة الشخصية الليبية؛ وتحيي قيم التسامح فيها، قبل أن نتحول إلى مجتمع يعيش على حافة الانهيار الأخلاقي، يتفنن في التجميل الخارجي بينما جوهره ينزف قيماً وأخلاقاً.
د. علي عاشور