باختصار
لطالما كان الفن الليبي مرآةً تعكس قضايا الوطن وهموم مواطنيه، وجسراً يصل بين الماضي والمستقبل، فلم يكن الفن يوماً في ليبيا مجرد كلمات وألحان وأصوات فحسب، بل كان صوتاً صادقاً يحمل رسائل نبيلة، ويروي حكايات الناس، ويعبر عن أفراحهم وأتراحهم آيضاً. لهذا قدمت الساحة الفنية الليبية أسماءً لامعة حملت على عاتقها مسؤولية الفن الهادف، وخلّدت بأعمالها قضايا اجتماعية ووطنية لا تزال تُرب وتسمع حتى يومنا هذا، فقد كان الفنانون الليبيون الحقيقيون يصنعون لوناً فنياً خاصاً بهذه البلاد، فناً يحمل فكراً، يلامس قضايا الشارع بأسلوب راق ومسؤول، لا فناً يعتمد على الصخب والضجيج الفارغ.
لكن وسط هذا الإرث الفني والقيمي العريق، نشهد اليوم موجة دخيلة على الفن الليبي، لبس عباءته زوراً، بينما هي في جوهرها مجرد صخب أجوف لا يحمل سوى الإسفاف والإساءة، فمنذ متى تحول الفن إلى أداة للانحطاط الأخلاقي؟ ومتى أصبح الإبداع ساحة لتبادل الشتائم وانتهاك الحرمات؟ إذ أننا نواجه موجة مشوهة لما يُسمى بـ”الراب”، الذي قدم لنا من ثقافة غربية لا نشترك معها في شيء، لكنه خرج عن كونه لوناً موسيقياً له جمهوره وثقافته، ليصبح ساحةً مفتوحةً لصراعاتٍ شخصيةٍ لا تمت للفن بصلة.
ما نراه اليوم ليس فناً، بل انحطاطاً أخلاقياً مغلف بثوب الموسيقى، حيث لا وجود لمحتوى هادف أو رسالة سامية، ولا حتى احترام لآداب الحوار، بدلًا من أن يسخر هذا اللون الدخيل “الراب” ليعبر عن هموم الشارع وتطلعات المجتمع، تحول إلى وسيلةٍ لتصفية الحسابات الشخصية وتبادل الاتهامات عبر كلمات خادشة للحياء، وكلمات مشحونة بالسباب واللعن والتجريح تلقى دون هوادة، وكأنهم يتنافسون على من يكون أكثر بذاءة وانحدارا!.
ولطالما كان االفن الليبي رمزاً للحضارة والإبداع، ومساحة للتعبير عن الهموم والتطلعات، ولكن ما شاهدناه خلال الأيام القليلة الماضية هو (بلدوزر) هائج يقوم بهدم قيم الشباب الليبي وأخلاقه، وهؤلاء الذين يقودونه وطلقون على أنفسهم “فنانين” يفتقرون إلى فهم حقيقة الفن كرسالة تحمل قيماً وأخلاقاً وأفكاراً، وليس مجرد كلمات مقفاة في استعراض بهلواني بصوت أجوف.
ليس هذا فحسب، بل الأنكى من ذلك أن هذه المهزلة تجد من يصفق لها، في مشهد يثير الحزن أكثر مما يثير الغضب، فهناك الكثير من المواقع والصفحات في العالم الإلكتروني تروج لهذا العبث، وهناك من يعتبره ظاهرة فنية، بينما هو في حقيقته مرض اجتماعي يحتاج إلى علاج.
فكيف يمكن أن تترك هذه الموجة الهابطة دون مواجهة؟ كيف نسمح لأمثال هؤلاء بإفساد الذوق العام وتشويه القيم؟ لم يعد الأمر مجرد خلافات عابرة بين شبابٍ يفتقرون إلى الوعي، بل تحول إلى تهديد حقيقي لنسيج المجتمع وأخلاقيات شبابه.
أين دور الجهات الأمنية والمؤسسات الثقافية في وضع حد لهذه الفوضى؟ فكما يتم التصدي لكل أشكال الفساد والانحراف، يجب التصدي لهذا التلوث السمعي والأخلاقي الذي يهدد بيئتنا الثقافية.
لا نطالب بتكميم الأفواه، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار السب والقذف فناً أو احتسابها حرية للتعبير، فالفن لا يعني الانحلال، والحرية لا تعني الفوضى، فقد آن الأوان لوضع حدٍ لهذه المهزلة، وإعادة الفن إلى مكانته الحقيقية كرسالة نبيلة تعكس قيم المجتمع وتحترم آدابه وأخلاق مواطنيه.
الفن الحقيقي يجب أن يكون مرآة تعكس جمال الروح الإنسانية وتساهم في بناء المجتمع، لا أن يكون أداة لنشر الفتن بين أبناءه، أو لا يخجل هؤلاء العابثين من أنفسهم أو من عائلاتهم؟، أولا تستيقظ الجهات المسؤولة قبل أن يغرق المشهد الثقافي في مستنقع التفاهة أكثر مما هو عليه الآن؟.
الفن هو رسالة نبيلة وحمل ثقيل من المسؤولية، ولا يجوز لنا أن نسمح لقلة مشوهة أن تسيء إلى هذه الرسالة أو تلطخ صورة المجتمع الليبي، علينا جميعاً أفراداً ومؤسسات، أن نتكاتف لحماية قيمنا وثقافتنا من هذا التدهور، وأن نعيد للفن مساره الصحيح كوسيلة للبناء والاطلاح، لا للهدم والخراب.