منصة الصباح

بِـيْنَ صِيَاغَةِ الحَقِيقَةِ وَصِنَاعَةِ الوَهْمِ

باختصار

د. علي عاشور

 من سيختلف معي حين أقول إن الإعلام يشكل وعينا ويتحكم في رؤيتنا للواقع؟ فهو الذي يرسم صورة العالم أمامنا، لكنه أيضاً من يختار الألوان التي تتماشى مع رؤيته، ويقودنا إلى تبني أراء تخدم أهداف مالكي وسائله، فالإعلام لا يكتفي بنقل الأحداث كما هي، بل يعيد صياغتها بطريقة تجعلنا نرى ما يريد أن نراه، وأن نشعر بما يريد أن نشعر به.

قوة الإعلام تكمن في التأثير فينا دون أن ندرك، فهو يخترق عقولنا من خلال الصور التي يعرضها، والكلمات التي يختارها، وحتى الموسيقى المصاحبة لها، هذه المضامين الإعلامية لا تصل إلينا بشكل عبطي، بل هي مختارة ومدروسة بعناية لتؤثر في قناعاتنا، وتوجه خياراتنا، وتشكل اتجاهاتنا عن ما يحدث من حولنا.

يستطيع الإعلام أن يحول الأفكار البسيطة إلى قناعات راسخة، والأحداث العادية إلى قصص مؤثرة تلامس قلوبنا، بل ويقلب الجاني إلى بريء والعكس. ولعل خير مثال على ذلك، أفلام الكرتون المعروفة (توم وجيري)، انظر ماذا فعل الإعلام هنا؟ جعلنا نتعاطف مع الفأر جيري ونصفق له في كل مرة ينجو فيها من القط توم، ولكن في الواقع نحن نعرف أن الفئران ليست أبطالاً ولا رموزاً للفطنة والذكاء، بل نعي جيداً أنها مصدر للأمراض والدمار، بينما القطط، تلك التي نراها في الكرتون كأغبياء وعنيفين، هي في الواقع حراس المنازل من الآفات، ناهيك على أنها من الطوافين والطوافات بنا، هنا نلاحظ أن الإعلام أعاد تشكيل الحقائق بطريقة كوميدية تجعلنا ننسى الحقيقة، ونقلب الحسن لسيء والعكس.

وهذا التأثير لا يتوقف عند الترفيه، بل يمتد إلى المجالات السياسية والاجتماعية، في السياسة، يستخدم الإعلام كأداة رئيسية لتشكيل الرأي العام، فالسياسيون يدركون تماماً أن النجاح في الانتخابات لا يعتمد فقط على البرامج الانتخابية، بل على الصورة التي يقدمونها للجمهور، لذلك نراهم يظهرون في مشاهد إنسانية مدروسة، مثل لقاءاتهم مع الأطفال ومشاركتهم في أنشطة بيئية، بينما تستخدم نفس الأدوات لتشويه صورة المنافسين والخصوم، من خلال تسليط الضوء على أخطائهم وتضخيمها، أو اختلاق روايات تسيء إليهم وتقلل من شأنهم.

الإعلام أيضاً شريك في تشكيل الصور النمطية للمجتمعات والشعوب، خذ مثلاً أفلام الهنود الحمر، تظهر لنا أنهم جماعات همجية عدائية، تعيش على القتل والنهب والسطو، في المقابل تصور لنا أفلام الكاي بوي الرجل الأمريكي بأنه الشخصية السوية، المنقدة، الشجاعة، والذي لا يهزم، هذه الصور تبني حواجز من الأحكام المسبقة بين الشعوب، مما يجعل الإعلام أداة لصناعة الوهم بدلاً من صياغة الحقيقة.

لكن المشكلة ليست في استخدام الإعلام فقط، بل فينا نحن أيضاً، نحن الذين نتلقى هذه الرسائل ونبني عليها مواقفنا دون أن نتوقف لنسأل بوعي: هل هذه هي الحقيقة؟، أو على الأقل: هل هذه هي الحقيقة الكاملة؟.

الإعلام شريك في صياغة الواقع، لكنه أبداً ليس المذنب الوحيد، إذا لم نتعلم كيف نقرأ ما وراء السطور، وكيف نُميز بين الحقيقة والخيال، سنبقى ضحايا لهذه الرويات التي تصنع لنا، فالإعلام ما هو إلا أداة بيد من يستخدمه، يمكن أن يكون قوة للتغيير الإيجابي، ويمكن أن يكون سلاحاً لصناعة الوهم أيضاً.

 

 

شاهد أيضاً

الاتحاد يقدم “كهربا” رسميًا .. إعارة تاريخية من الأهلي المصري

قدّم نادي الاتحاد، الخميس، نجمه المصري محمود كهربا رسميًا لوسائل الإعلام. وأعلن النادي خلال مؤتمر …