منصة الصباح

 هَل حَقًّا لَدَيْنَا مِلْيُونُ حَافِظٍ لِكِتَابِ اللهِ؟!

باختصار

 د. علي عاشور

  حالة من الخوف والهلع أصابت شريحة واسعة من الليبيين، بعد أن شاهدوا مقاطع الفيديو التي انتشرت الأسبوع الماضي على مواقع التواصل الاجتماعي، لم يكن الخبر في حد ذاته مستغربًا في مجتمع يصنف بأنه من مجتمعات العالم النامي، والتي طالما تعايش وآمنت بما يسمى بالخرافة سنين طويلة، لكن المثير للقلق هو رد فعل الناس الذين انقسموا بين مندهش ومصدوم، وكأنهم لم يكونوا على دراية بأن مثل هذه الشخصيات تعيش بينهم.

هلع الناس بعد القبض على الساحر، يكشف عن حالة ضعف عميقة في بنية الوعي المجتمعي، فكيف يمكن أن يتغلغل كل هذا الخوف من شخص لا يمتلك سوى بعض الحيل والأكاذيب؟ ولماذا يتحول القبض على دجال إلى حدث كبير تتناقله وسائل الإعلام التابعة للأجهزة الرسمية في الدولة، ويثير هذا القدر من الخوف والقلق في الشارع الليبي؟ فهل حقاً لدينا مليون حافظ لكتاب الله؟.

هذه الحادثة تحيلنا إلى إشكالية أكبر وأوسع من مجرد وجود “مشعوذ” أو “ساحر” هنا أو هناك؛ إنها تعكس أزمة ثقة وهروبًا من الواقع، في مجتمع يواجه أزمات متعددة، يصبح البحث عن حلول خيالية أو خارج المنطق أمرًا متوقعًا، فالبعض يجد في الشعوذة ملاذًا يلجأ إليه عندما يعجز عن التعامل مع واقعه المليء بالمشكلات، من البطالة إلى العنوسة إلى تدهور الخدمات وغياب العدالة، هذا البحث عن “المعجزات” أو “التدخلات الغيبية” ما هو إلا دليل قوي على حالة ضياع وعدم استقرار نفسي واجتماعي يعيشها هؤلاء.

لكن المسؤولية هنا لا تقع فقط على عاتق الأفراد الذين يلجأون إلى مثل هذه الممارسات، بل المسؤلية الكبرى تتحملها الجهات المسؤولة التي فشلت في توفير بدائل حقيقية تعيد الثقة للناس في القانون، وفي العلم، وفي المنطق، وقبل هذا وذاك، فشلت في زرع وازع ديني في أبناء المجتمع، فأين دور المؤسسات التعليمية والدينية في التوعية؟ وأين وسائل الإعلام من تقديم محتوى توعوي يعالج هذه الظواهر والقناعات الخاطئة؟، وأين الخطباء والوعاظ مما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي من مغالطات؟ حتى وصل الأمر إلى ترهيب الناس والتشكيك في عقيدتهم؟.

من المؤسف أن نرى مواطنين في القرن الواحد والعشرين، في بلد يتفاخر بأن أبنائه يحصدون الجوائز الأولى في مسابقات حفظ القرآن الكريم حول العالم، ينجرون خلف مخاوف سحر وشعوذة. لكن يجب أن نعترف أن هذه المخاوف لا تنبع من فراغ، بل من فجوة معرفية، ومن تردي ثقافي وديني عميقين، وحتى مؤسساتي… فالمدارس عاجزة عن غرس القيم العلمية، والمساجد أحيانًا تكتفي بالخطاب الديني السطحي الذي لا يلامس جذور المشكلة، بينما نجد أن وسائل الإعلام غارقة في تفاصيل الحدث دون أن تبحث في خلفياته وأبعاده الحقيقية… أما المراكز البحثية المتخصصة تعيش حالة من العزلة عن الواقع الذي يعيشه الوطن والمواطن.

الأزمة اليوم ليست أزمة “إبراهيم ” الساحر الذي اعتُقل، بل أزمة مجتمع بأكمله، حالة الهلع التي شاهدناها في عيون وأحاديث الناس، يجب أن تكون دافعًا لإعادة النظر في ما نعلمه للأجيال القادمة، وفي ما نتناوله في منابرنا، وفي الكيفية التي تتناول فيها وسائل الإعلام القضايا الحساسة، إذ يجب أن نعترف بأن الخوف من السحر والشعوذة ليس مجرد خرافة يتداولها الناس، بل هو انعكاس لانعدام الثقة بالذات، وبالمؤسسات، وبقدرة العقل على تجاوز التحديات.

نحن اليوم بحاجة إلى خطاب مختلف، خطاب يعيد للناس الثقة بأنفسهم، ويعلمهم أن حل المشكلات لا يأتي عن طريق “طلاسم” من مشعوذ أو ساحر، وأن “الزوج الوسيم” لا يأتي عن طريق البسبوسة المنزلية بعد خلطها بمادة بها تعويذة معينة، وأن النجاح في العمل أو العلم لا يأتي عن طريق “الحجاب”…. كل ذلك لا يأتي إلا بمعونة رب العباد، ثم بالتعليم والعمل الجاد، وعبر مؤسسات قوية قادرة على خلق بيئة تدفع الناس نحو التقدم والاجتهاد.

وعلى كل حال، فإن القبض على ساحر واحد أو حتى عشرة سحرة لن يقدم علاجاً نهائياً لمشكلتنا، إذا استمرينا في تجاهل أسباب ظهور هذه الظواهر من الأساس، الحل يبدأ من مواجهة الهلع ذاته، وتفكيك تركيبة الجهل التي تزرع الخوف وتدفع الناس إلى تصديق أن مشعوذاً عاش متخفياً شهوراً عدة في بيت أسرة ليبية مسلمة ومتحكماً فيها… علينا أن نبني مجتمعًا لا يهتز خوفًا من ساحر، بل يهتز شوقًا إلى التغيير والعمل والبناء…

 

 

، .

 

شاهد أيضاً

التومي على مذكرة تعاون مع وزارة اللامركزية الجيبوتي

الصباح وقع وزير الحكم المحلي بدر الدين التومي ، و وزير اللامركزية الجيبوتي قاسم هارون …