د. علي عاشور
تحت مجهر الكوارث والأزمات، تنكشف معادن الشعوب وتظهر أصالتها، هكذا كانت قصة درنة حين اجتاحتها السيول العاتية، لتغرق بعدها قلوب أبناء ليبيا في بحر من الحزن والأسى، إذ لم تكن تلك الكارثة مجرد حدث طبيعي عابر؛ بل كانت ملحمة إنسانية تجسد أسمى معاني التعاون والتآزور ووحدة الصف بين أبناء الشعب الواحد.
فبعد أن أظلمت السماء على درنة وما جاورها، وعصفت الرياح بقوة حاملةً معها كميات هائلة من المياه، اندفعت السيول من أعالي الجبال والسهول والشعاب باتجاه البحر، حاملةً معها كل من يقف في طريقها.
استفاق الليبيون على صور وفيديوهات صادمة ومفجعة لملامح الكارثة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فتحركت الروح الوطنية التي ظن البعض أنها قد ماتت، فتوحدت القلوب قبل الأيادي، وتناسى الجميع كل الخلافات والانقسامات. رأينا شبابًا من كل أرجاء الوطن يتوافدون إلى المدينة، حاملين معهم أدوات الإنقاذ وقلوبًا مليئة بالإصرار والعزيمة.
كانت صيحات الاستغاثة تُجاب بأصوات الدعم والمؤازرة، وكانت العيون التي ذرفت الدموع حزناً على ما حدث، هي نفسها التي أبصرت النور في تلك اللحظات الحالكة.
لم يكن الأمر مجرد مساعدات مادية أو إنقاذ جريح هنا أو هناك؛ بل كان يتعلق بروح تعانق روحًا، ويدٍ تمسك بيد لتعيد بناء ما تهدم، كان الشباب يحملون الركام على أكتافهم، ويزيلون الأحجار بأناملهم، ويمسحون الدماء عن جبين المتضررين برفق، ويمسحون دموع المكلومين، ويبحثون بلهفة على ناجين وسط الركام والطين، وكانت الأمهات تجهزن الطعام للمتطوعين، والأطفال يقدمون المياه للعمال والمسعفين، وكأن الجميع جزء من جسد واحد كبير يحمل اسم ليبيا.
إن وحدة الصف التي شاهدناها في درنة لم تكن مجرد فعل عابر أملته الظروف، بل كانت تعبيرًا عن فطرة نقية وقوية لدى الليبيين، وعقيدة راسخة بأن الوطن أغلى من كل شيء. تلك هي الوحدة التي نبتت جذورها في أعماق قلوب الليبيين، أظهرت أن قوة الأمة ليست في عددها وعتادها ولافي مواردها، بل في روحها الجماعية التي تبني وتزرع الأمل حتى في أحلك الظروف.
وبعد مرور عام على الكارثة، لا تزال درنة تلملم جراحها، لكن آثار التعاون ووحدة الصف بين أبناء الشعب الواحد لا تزال محفورة في ذاكرة المدينة وقلوب أهل ليبيا أجمع. لقد أثبت الليبيون أن الأمل يولد من رحم المحن، وأن العطاء بلا حدود هو السبيل لبناء مستقبل أفضل، فقد كانت درنة درسًا في المواطنة والوطنية، وصورة ناصعة تعكس كيف يمكن للوطن أن يكون حضنًا دافئًا لأبنائه في أوقات الأزمات والكوارث.
درنة اليوم ليست مجرد مدينة تعافت من كارثة السيول؛ إنها رمز حي لقوة التعاون ووحدة الصف بين أبناء الشعب الواحد، إنها قصة إنتماء وولاء وتضحية وفداء، واستجابة سريعة لكل استغاثة ونداء، سوف تُروى للأجيال القادمة لتعلم أن الوطن هو البيت الكبير الذي يجمعنا، وأننا جميعًا، بقلوبنا وعقولنا، قادرون على بناء جسر من الأمل يعبر بنا إلى مستقبل مشرق، مهما اشتدت العواصف.