د. علي عاشور
الأزمات لا تأتي دائماً على هيئة كوارث طبيعية أو حروب طاحنة، أحياناً يكفي أن تحاول طهي وجبة بسيطة لتكتشف حجم المأساة.
أنا أتحدث عن اسطوانة الغاز في ليبيا والتي لم تعد مجرد أنبوبة تستخدم للطهي، بل تحولت إلى مقتنى للمرفهين، وامتحان في الصبر للمواطنين، وماراثون إلكتروني تكافأ في نهايته بقطعة حديدية مملوءة بالغاز… إن كنت محظوظاً طبعاً.
شركة البريقة لتسويق النفط قررت إنقاذ الموقف على طريقتها الخاصة، فأعلنت للمواطنين فتح باب الحجز المبدئي إلكترونياً للحصول على اسطوانة (11 كيلو) بسعر (مدعوم) قدره 240 ديناراً، علماً بأن سعرها في السوق السوداء تجاوز 1200 دينار، أي ما يكفي لمبيت نصف ليلة في أحد مصائف غنيمة المنعشة.
والأدهى من ذلك، أن من سبق وسجل في رابط البريقة الأول، عليه أن يعيد تأكيد التسجيل عبر رابط جديد. لماذا؟ لا أحد يملك إجابة، وربما لا أحد يريد أن يملكها أصلاً.
والمثير للسخرية أن البريقة سبق وأن فتحت رابطاً مشابهاً قبل أكثر من عام، وجمعت آلاف التسجيلات من المواطنين المتفائلين، وانتظروا الأسطوانات، لكن البريقة سحبت يدها، وسحبت معها الأمل، لا توزيع، ولا بيع، ولا حتى بيان اعتذار… لأبناء هذا الشعب المغوار.
كأن الشركة أرادت فقط التأكد من عدد الملهوفين، لا أكثر، أو ربما كانت دورة تدريبية وطنية على كيف يكون الانتظار بجرعة ابتزاز زيادة.
لكن الحقيقة الأعمق، والتي يحاول البعض تجاهلها، هي أن أزمة شح أنابيب الغاز ليست جديدة، ولا علاقة مباشرة لها لا بثورة ولا بتهريب ولا (دياولو)، فحتى قبل 2011، كانت أزمة الحصول على أسطوانة الغاز حاضرة، والمضاربة حاضرة، والاحتكار حاضر… وكأن المسألة فيها (إن) كما يقال.
نحن دولة تجلس على بحر من الغاز، وتوقع اتفاقيات لتصديره بالمليارات، بينما المواطن الليبي يطهو طعامه على (البريمس)، أو يعود للحطب والفحم في القرن الحادي والعشرين.
في المقابل، نجد الدول المجاورة لنا تبيع أنابيب الغاز في محلات المواد الغذائية، مع علب الطماطم وأرغفة الخبز، أما نحن، فنحتاج إلى تسجيل إلكتروني، ورسالة تأكيد، وأحياناً دعاء الوالدين.
المفارقة أن مصانعنا المحلية تصنع أسطوانات البريمس وتباع في كل المحلات، بينما الأنبوبة العائلية التي تكفي لطهي وجبة محترمة أصبحت مثل المواد المشعة: لا تشاهد إلا في الصور…
يتذرع البعض بالتهريب وسوء التوزيع، وهذه أعذار نسمعها منذ عشرين عاماً، لكن السؤال: هل من المعقول أن دولة تملك الغاز، والموانئ، والمصانع، والشركات الوطنية، تعجز عن توفير أنبوبة طهي لعائلة ليبية؟
وفي الوقت الذي تتحدث فيه تقاريرنا الرسمية، وخططنا الاستراتيجية عن التحول إلى الطاقة المتجددة والبديلة، المواطن يشعل موقده بقداحة، ويغلي الماء في (كتل).
أسطوانة الغاز تحولت من أداة طهي إلى مرآة وطن، نصدر الغاز ولا نجده، نكتب خطط الطاقة، ولا نملك ناراً نقلي عليها بيضتين.
المواطن الليبي لا يطلب المستحيل، ولا حتى الكثير، فقط يريد أن يعد وجبته دون تفكير أو مذلة، وأن يعيش في دولة تعرف أن السيادة لا تبدأ من الاتفاقيات الدولية… بل من توفير إسطوانة غاز في مطبخه… وأخرى احتياط في دار الخزين.