في رواية “الديكاميرون” للكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو، يهرب عشرة شبان من وباء الطاعون الذي اجتاح فلورنسا عام 1348م إلى فيلا ريفية، حيث يحكون مئة قصة على مدى عشرة أيام ليهربوا من رعب الموت إلى عالم الحكايات. اليوم، في طرابلس، يعيش المدنيون هروبًا مشابهًا، لكن من طاعونٍ آخر: طاعون الرصاص والصراعات المسلحة التي أعقبت مقتل أحد قادة المليشيات، حيث تُروى حكايات النجاة تحت وابل الرعب، وكأن التاريخ يعيد نفسه بوجهٍ أكثر قسوة .
في الديكاميرون، كان الطاعون يجتاح الجسد ببقع بنفسجية وحمى قاتلة، بينما في طرابلس، ينهش “طاعون السلاح” الجسد الاجتماعي بدماء الشوارع وصراخ المدنيين. وكما وصف بوكاشيو أعراض الوباء بقسوة، تصف التقارير و الشهود اشتباكات طرابلس الأخيرة: “أضرار في المباني، وقَتلى، وإصابات، واختفاء “، وكأن المدينة تحوّلت إلى مسرحٍ للجحيم .
لكن الهروب هنا ليس إلى فيلا ريفية، بل إلى زوايا المنازل المغلقة، حيث يحاول الليبيون نسج حكاياتهم اليومية لإنقاذ ما تبقى من إنسانيتهم. وكما قال بوكاشيو: “الحكاية وسيلة للخلاص”، فإن الحكي هنا مقاومةٌ ضد الصمت المُفْرَض بالرصاص.
شخصيات بوكاشيو وأبطال طرابلس: بين السخرية والواقع
في الديكاميرون، تتنوع الحكايات بين السخرية من فساد رجال الدين ووصف مغامرات التجار، بينما في طرابلس، تتنوع حكايات المدنيين بين سرد تفاصيل النجاة من الاشتباكات وانتقاد فساد المليشيات. فـ”دايونيو”، الشخصية التي تعبر عن آراء بوكاشيو نفسه في الرواية، يجد نظيره في الصحفيين والناشطين الليبيين الذين يوثقون الانتهاكات برغم المخاطر.
لكن بينما كانت حكايات بوكاشيو تنتهى بالغناء والبهجة، تنتهي حكايات طرابلس غالبًا بصمتٍ مُطبق، أو بصرخة أم فقدت ابنها في اشتباك عابر.
الرقابة القديمة والحديثة: حين يُحرَق الحكي
واجهت الديكاميرون حظرًا كنسيًا لأنها كشفت زيف السلطة الدينية، فـ”أُحرقت مع كتب أخرى في شعلة الغرور” . وفي ليبيا، تُواجه الحكايات رقابةً من نوعٍ آخر: رصاص المليشيات الذي يفرض سرديةً واحدة.
اختتم بوكاشيو روايته باعتذارٍ عن “ما قد يُرى غير لائق”، لكنه أكد حرية الفنان في رسم لوحته كما يشاء. أما في طرابلس، فلا يزال الفنانون والمدنيون ينتظرون لحظة الاعتذار عن الدماء المسكوبة. ومع ذلك، تبقى الحكايات – القديمة والجديدة – شهادةً على أن الإنسان قادرٌ على النجاة حتى تحت أنياب الطاعون.
كما كتب بوكاشيو: “التعاطف مع المُعانين صفة إنسانية” . ربما تكون هذه الصفة هي الجسر الوحيد بين فلورنسا القرن الرابع عشر وطرابلس القرن الحادي والعشرين، حيث الحكي ليس مجرد تسلية، بل شمعةٌ في ظلام الرعب.