منصة الصباح
د. مجدي الشارف الشبعاني

دول بلا جيوش… وأوطان بلا خوف

بقلم: د. مجدي الشارف الشبعاني

في عالمٍ يعج بالنزاعات والسباقات العسكرية المحمومة، قد يبدو قرار دولةٍ ما بإلغاء جيشها ضربًا من المثالية أو المغامرة. لكن التاريخ والواقع يثبتان العكس: هناك دول اختارت أن تُزيل الجيوش لا لضعفها، بل لإيمانها بأن الأمن الحقيقي يبدأ بالعدالة، والتعليم، والكرامة الإنسانية، لا بالسلاح.

أولًا: كوستاريكا… أن تُسلّم بندقيتك وتكسب مستقبلك

حين خرجت كوستاريكا من حرب أهلية قصيرة عام 1948، اتخذ قادتها قرارًا جريئًا بحلّ الجيش نهائيًا وأُلغي الجيش رسميًا، ونصّ الدستور عام 1949 على أن كوستاريكا لن تمتلك قوة مسلحة دائمة ، تنص المادة 12 من دستور كوستاريكا على أن ”
“يُحظر وجود الجيش كمؤسسة دائمة. ولغرض حفظ النظام العام، سيكون هناك قوات شرطة بالعدد اللازم.

وبالفعل فُتحت أبواب ميزانية الدفاع لتحوّل إلى قطاعات الصحة، والتعليم، والتنمية البيئية.

وكانت النتيجة ان كوستاريكا اليوم تحتل مراكز متقدمة عالميًا في مؤشر السعادة، ومحو الأمية، والعناية الصحية ، وهي واحدة من أكثر الديمقراطيات استقرارًا في أمريكا اللاتينية.

فالأمن الاجتماعي قد يكون أعمق أثرًا من الأمن المسلح.

ثانيًا: آيسلندا… جزيرة السلام دون سلاح

آيسلندا، تلك الدولة الأوروبية التي لا تمتلك جيشًا، رغم موقعها الجغرافي الاستراتيجي في شمال الأطلسي وتعتمد على قوة الشرطة وخفر السواحل، وتُدير أمنها عبر اتفاق دفاعي مع حلف “الناتو” ولم تخض حربًا، ولم تُستخدم أراضيها في نزاعات إقليمية، رغم قربها من مراكز التوتر في الحرب الباردة.

واللافت أن آيسلندا تكرّس معظم ميزانيتها لمجالات الرعاية، البحث، والتعليم ، وتُصنف باستمرار ضمن أعلى الدول في مؤشرات الشفافية والعدالة والمساواة.

ثالثًا: بنما… وهي بلد بلا جيش في قلب أمريكا اللاتينية ، فبعد تدخل أمريكي في 1989 لإسقاط الجنرال نورييغا، قررت بنما حل الجيش بالكامل عام 1990، وثبّتت هذا القرار في دستور 1994 حيث نصت المادة 310 على ان ” جمهورية بنما لن تمتلك جيشًا. ويجوز تنظيم قوات شرطة بالعدد اللازم لحفظ النظام العام وحماية حياة وكرامة وممتلكات من هم تحت ولاية الدولة.وأنشأت قوات أمن داخلي مدني، دون تسليح ثقيل، ودون طموحات عسكرية خارجية ، وبدأت تستثمر في التعليم والخدمات الأساسية، مع تركيز خاص على الحريات السياسية.

ورغم كل ما حولها من دول عسكرية، حافظت بنما على استقرار داخلي ملحوظ.

وهنا نسأل سؤالا وجيها ،، لماذا تُلغى الجيوش؟

ليست كل الدول قادرة أو ملزمة بإلغاء جيوشها، ولكن النماذج السابقة تشير إلى أن غياب الجيش لا يعني غياب الأمن، بل حضور الدولة المدنية ووضوح الدور الأمني الداخلي في ظل القانون وعدم عسكرة الحياة السياسية.

والدول التي ألغت جيوشها لا تعتمد على “الفراغ”، بل على تحالفات ذكية، ومؤسسات قوية، وشعوب متماسكة.
ليبيا… ماذا لو أعدنا التفكير؟

في ليبيا، حيث الكتائب والعتاد لا تُحصى، ومع ذلك يغيب الأمان،

يصبح السؤال مشروعًا هل الأمن في البندقية، أم في بناء الدولة؟ هل نحتاج مزيدًا من الأسلحة، أم مزيدًا من المدارس والمستشفيات؟ وهل يُمكن تخيّل ليبيا تُنفق على الإنسان أكثر مما تُنفق على الرصاص؟
لسنا مضطرين لحلّ الجيش، لكننا ملزمون بإعادة تعريف وظيفته، وتنظيمه، وجعل الأمن حقًا مدنيًا لا مكسبًا ميليشيويًا.

علينا أن ننتقل من السلاح إلى الإنسان

الدول التي تخلّت عن الجيوش أثبتت أن القوة لا تعني الدبابة، بل القدرة على حفظ السلام الداخلي، وتوفير العدل، وتمكين المواطن من الحياة الكريمة.

ولعل ليبيا – التي أُغرقت بالسلاح – أحوج ما تكون إلى لحظة تأمل بأن نوجّه بندقية العقل لا بندقية الحرب، وأن نعيد توجيه البوصلة نحو بناء الإنسان، لا تسليح المجموعات.

فلا أمن بلا عدالة… ولا دولة بلا أمان

شاهد أيضاً

جمعة بوكليب

عيونٌ طرابلسية

جمعة بوكليب المكتوب من عنوانه، والكتاب من غلافه.هذا ما يقوله مثل قديم. لكن كتاب الشاعر …