منصة الصباح

درنة العروس الكوزموبوليتية..ملحمة عشق ووفاء لكل من أحبها وأخلص لها!

سياحة ..

       فرج غيث

تحولت مدينة درنة عبر القرون إلى أسطورة ثقافية، آنذاك كانت (عروس البحر الأبيض) بوتقة للثقافات والحضارات، من المصرية القديمة، مروراً بالإغريقية والرومانية، ثم الإسلامية، ووصولاً أخيراً إلى الثقافات الأوروبية المعاصرة، وفي منتصف القرن العشرين كانت درنة رمزا للتسامح والتعايش ونموذجاً لما يسمى بالمدينة الكوزموبوليتية الثانية في ليبيا بعد بنغازي المنفتحة على العالم بحكم تاريخها وتركيبتها الديموغرافية، والتي تعايش فيها إلى جانب الليبيين جاليات كبيرة من الأرمن والأتراك والشوام والمغاربة واليونانيين والإيطاليين والأفارقة والآسيويين.

صدى هذه الأسطورة نجدها في أعمال أدبية ومسرحية عديدة تميزت بها مدينة الزهر والنوار، درنة المدينة الزاهرة، سليلة الماء ومهد التاريخ، خصبة العقول والصعيد، أسسها الأولون وعمرت بالآخرين، يذكرها التاريخ بما قبله من غوابر الزمان، سبقت حضارات وعاصرت حضارات، أثرت وتأثرت بحضارات لم يغادرها التاريخ يوماً، فظلت أيقونة للعناد المعرفي للانتصار على آفة النسيان، رغم قساوة بعضٍ من مراحل مقاومتها للخواء الذي طالما ناصبها عداءه التاريخي، لكنها دائما هي المنتصرة.

بين أعراف أوابدها المطلة على البراري الشاسعة مراقد الشموس وآفاق البحر المسكونة بزرقة السماء تتكئ المدينة الزاهرة مدللة الزمان، لا تظمأ ولا تجوع، ملاذ الخليقة الأولى من كل حدب ولون ولسان هبة الشلال، جميلة وذات طبيعة خلابة، ميزها الله عن غيرها من باقي المدن القريبة منها بموقع فريد ونسيج سكاني متميز، وبيئة حضارية موريسكية مدهشة، عرفت التعايش السلمي منذ أمد بعيد، وفيها حَطّ (الموريسكيون) رحالهم، هي جبل ووادٍ وبحر، كما بلاد الأندلس، جلب إليها الأندلسيون معمارهم المتميِّز بالنوافير والشرفات الخشبية، واستغلّوا ماء شلالها في الزراعة عبر نُظُم رَيّ مميزة، كان العشاق يرسلون رسائلهم ورموزهم وتمائمهم عبر الماء، فتصل بأمان، لا عاشقة تمسّ بريد ماء أخرى ولا عاشق يمسّ بريد عاشق زميل، تميزت الاسرة الدرناوية بأحياء كل المناسبات بشكل مميز ورائع، ودفء اللحظات الجميلة، وتواصل الناس مع بعضهم البعض وتآلفت قلوبهم وتراحموا، تقاليد وعادات جميلة مليئة بالكثير من المحبة والتراحم والعطاء.

اسماء كثيرة مرت على هذه المدينة وأسماء عاشت واستقرت فيها، فهذه المدينة ترعرعت بين جناباتها ثقافة وطنية وحس أهلها القومي، لتلعب دورها التاريخي في الوحدة الوطنية، لعل أشهر هؤلاء (محمد السنفاز) والذي تشتم من مسافة رائحة السفنز والزلابيا والمخاريق التي كان يحضّرها، ذلك المتطوع التونسى لحرب 48 بفلسطين، الذي شارك مع إخوته الليبيين في حرب 48 وحين عودته آثر العيش بدرنة، قال إنه جاء من تونس عام 1948م متطوعاً للقتال في حرب فلسطين، والتحق بمجموعة من المتطوعين من مدينة درنة، ولكنهم ما لبثوا أن عادوا فمكث معهم في درنة، ولتونس والتونسيين وشائج وصلات أرحام قومية مع درنة عبر التاريخ، وقد كانت بيوتها ملاذاً آمنا للمجاهد الأكبر (الحبيب بورقيبة)، حيث كان في ضيافة إبراهيم الكوم وسكن شارع المأمون بحوش (الغولة) المجاور لحوش الفوال وله بمقهى الهرش بقية حساب لم يدفع، وحين زار درنة وكان رئيسا للجمهورية التونسية التقى بكل الذين أكرموا ضيافته وقد حدثه سي علي الهرش عن دينه للمقهى وأعلن إعفاءه من دفعه إكراماً لوفائه وزيارته لهم، كانت دعابة ألجمت لسان السيد الرئيس اللاذع وتندر بها الحاضرون.

ولا ننسى الإيطالي جيوفانيني والد درنة ملكة جمال إيطاليا والعالم في العام 1929م، الذي سحره جمال مدينة، وقد طاب له المقام فيها، حيث أحب سكانها وتعامل معهم في عدة أعمال حرفية منها وتجارية، فأحب أن يطلق اسم هذه المدينة على مولودته الجميلة.

وأضافت درنة قصة جديدة للحب والتعايش السلمي الذي اشتهرت به، وهذه المرة لعائلة درناوية الانتماء سورية الأصل مسيحية الديانة، هذه الأسرة التي تواجدت في درنة منذ مدة تزيد عن 55 عاما حيث طاب لهم المقام في احضان طبيعة الورد والياسمين، منذ جد هذه الاسرة السيد فؤاد الذي افتتح في درنة مطعما على ناصية كورنيش البحر، وهو أحد افضل مطاعم درنة الشعبية، وكان يساعده ابنه الأكبر جورج، ثم استلم العم جورج المطعم وكان يقف معه ابنه ماني حفيد السيد فؤاد، لا يختص المطعم بتقديم نوع محدد من الأطعمة حيث يوجد به كل شيء و لكن نال شهرة واسعة بطريقة تحضيره للكبدة، لن تتذوق مثيلاً لها على الاطلاق في أي مكان آخر فهي لذيذة لدرجة لا يمكن وصفها بالكلمات، كل من عاش في درنه أو كان يتردد عليها يعرف هذا الرجل الطيب العم جورج الذي أشتهر بتحضيره لشطائر (ساندوتشات) الكبدة.

إننا أمام حالات استثناء صنعت من المكان محرابا للحياة، فما بالك حين تجد انك أمام استثناء مميز ورائع للعروس الكوزموبوليتية.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …