منصة الصباح

دخلنا الأرض من باب الغرام

محمد الهادي الجزيري

يا قوم من منكم قادر على شفائي من عشقي الأخير؟، لا أحد طبعا، وما سؤالي سوى صرخة المنحور الأخيرة، عدت إلى ركني القصيّ مذهولا ممّا حدث لي، ألقيت محفظتي بما فيها من كتب ومشاريع نصوص، ودفاتر وأرقام هواتف وأقلام و…، ألقيتها في مكان ما من البيت.. أو في الجحيم، وتهاديت إلى مكتبي لأنقل إلى جهاز الكمبيوتر بعض ما شُحنت به من شده وحنين وحمّى ، وكنت أنوي إفراغ هذه الحمولة المسمومة في مقالة ساخرة من أصدقائي المرتجفين من جولة الموت الأخيرة، ولكن ها إنّي أكتب عن ذئبة رهيبة صادفتها في غياهب الغابة المتحضرة…، ألقت السلام على من كانوا معي ووجّهت عينيها الباذختين إلىّ وخصّتني بالجملة الملغومة التالية : ” أعرفك ولست أدري أين رأيتك “، وهذا هو الجور يا قوم، كهل مشرف على الستين، يحاول التماسك لينهي يوم عمله، ويعود إلى غربته الأثيرة، تنقضّ عليه ذئبة قاهرة الجمال، معتدّة الروح والجسد، هكذا دون جرم اقترفه ودون أن تكلّف نفسها البسملة قبل أن تقترف جريمتها البديعة المذهلة، والمضحك أنّ نقاد الأدب ( قرّاء صفحات الوفيات) ، سيختلفون في ماهية هذه المرأة إن كتبت عنها ( سأكتب ) قصيدة محمومة تليق بذئبة من نار وقتيل من كلمات، ألم يوشكوا أن يعرضوا معشوقة أبي القاسم الشابي على الجهات المختصة في فرز الجنسيات من بعضها البعض ، فقد أكّد أساتذة أفذاذ أنّها سائحة أجنبية لمحها الشابي في الأسواق، وألحّ جهابذة آخرون على حتميّة وجود قرابة بينهما وأقسم أكثرهم عنادا بطلاق زوجته وأمّته إن لزم الأمر، أنّها من وحي خياله …، وحتّى لا يضطرّ السادة النقاد إلى الاحتكام إلى العدالة ، أعترف أنّها من أروع ما عرض التيه عليّ ..وكفى، دعونا نعشق أيها المولعون بدسّ أنوفكم في جراحنا وغيومنا، وافعلوا شيئا آخر عوض التهام لحم الموتى من مبدعينا، قوموا بأمر آخر، كأن تعشقوا مثلي مثلا، وتعترفوا بذلك، وتكتبوه وتواجهوا به كلّ حيّ وميّت أيضا، فالعشق شيء ربانيّ وروح هذه الحياة ومحرّك الوجود منذ كان ، لذا أنا سعيد الليلة رغم ما يعتمل داخلي من عواصف وزلازل وفوضى عارمة، نعم لكم أنا مزهوّ بي، فرغم المناخ الجنائزي الذي يطغى على هذه الأمّة التي تعبد الحزن وتنظّر للخوف وتحذّر المواطن المقهور من أهوال القبور، رغم ما ذكرت وما تجاوزت من هموم، لم أكتسب مناعة ضدّ العشق والولع بكلّ شيء جميل، بدءا بالوجه الإنساني المدهش، والجسد الأنثوي المرعب ، ولقد كتبت في إحدى قصائدي القديمة ما يلي:

” الحبّ عندي أن أتوه برفقة الوجه الحسنْ

الحبّ أن ألقاك وحدي، ما معي غير الكفنْ

الحبّ أن أرضى بموتي دون شرط أو ثمنْ

الحبّ عندي أن أموت على يديك ولا أئنْ…”

نعم أنا مع الموت حبّا للحياة وعشقا لتمظهراتها الكثيرة، وولعا بمصارعة القبح والكبت والتعفّف المبالغ فيه الذي يستبطن حيوانيّة مكثّفة، نعم للموت حبّا وعشقا وعنادا إذن، أمّا الموت من شدّة التفكير في الموت، والخوف من أمر لم نجرّبه بعد، فلا وألف لا، ليأتي الموت متى يشاء ..ولعلّه سبيل نجاة ، وليكفّ أصدقائي من التوجّس خيفة منه، ولهم أن يحترقوا مثلي بنار العشق.. لينتهوا يوما ما رمادا فتذروهم الرياح ولا يعثر عليهم هذا المسمّى الموت …، يا جماعة لن أنهي مقالتي بالموت بل سأنهيها هكذا :

” دخلنا الأرض من باب الغرام    وقضّينا الصبا عند الوصال

سخيّا كان يسقينا الحياة     يناولنا الكؤوس على التوالي “

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …