منصة الصباح

خلتها مخصّصة للضحك فقط

محمد الهادي الجزيري

طلبت من دماغي أن يفكّر مليّا قبل أن أطلق قلمي في بياض الورقة لأتمكّن من مصافحتكم، وراودتني هواجس وأفكار شتّى، عرضت نفسها موضوعا لمقالتي، لكن من حسن حظّكم وسوء حظّها أنّ سوداويّة بغيضة تلبّست بها وأشجانا رهيبة اندسّت فيها، فطردتها جميعا ودون استثناء ولسان حالي يردّد:” يكفي المواطن العربي ما يتخبّط فيه يوميّا من قرف وخوف وقلق”، وها إنّي أقترح عليكم جولة في رفقة الضحك رأفة بأنفسنا وتفاديا لانفجار رؤوسنا ممّا تستوعبه على مدار الساعة من عجائب وغرائب وممّا تتجرّعه أعيننا من دماء وأشلاء وخراب عميم…. أيّها المتعبون .. أنصتوا، إنّ الضحك يتهيّأ لعرض ما تيسّر من ذاكرتي:

ــ لنبدأ من ثلاثينات القرن الماضي، وتحديدا من ردّ أحد المتعصّبين على المصلح التونسي الطاهر الحدّاد، إذ ذيّل ردّه القاسي بهذه الجملة ” هذه دفعة على الحساب حتّى أقرأ الكتاب”، لست بصدد الانحياز إلى أحد المتخاصميْن، بل أنا أضحك فقط من عالم يجد الجرأة للردّ على مؤلّف كتاب لم يطّلع عليه، فالرجاء من الجميع أن نقرأ لبعضنا البعض قبل أن نطلق الحقد على من يخالفوننا الرأي دون دراية بما حبّروه ، فنُضحك الخلق منّا وإن كنّا مع ذلك نورث أحفادنا فرصا أخرى للضحك أو الابتسام في طقسنا العربي المغلق على الأنا المتورّمة العارفة لكلّ شيء….

ــ نعود إلى “الآن وهنا” كما يقول أحد الشعراء التونسيين، ثمّة أديبة مخضرمة ، ظنّت الثورة حفل زفاف جماعي، فلم تبخل علينا بتوزيع صور مشاركاتها في كلّ ازدحام، أمّا الأطباق التي استعملتها لتوزيع الصور اللذيذة، فهي صفحات “الفيسبوك” ..، كيف فاتني أن أقترح عليها تسميّة صورها بمرطّبات الثورة..

ــ لنظلّ في العالم الافتراضي، فقد أمسى لدينا اليوم رؤساء بعدد أفراد شعوبنا، والأمر ليس لغزا، بل هو في غاية البساطة، وقد تحقّق بفضل: جهاز كمبيوتر، وكرسيّ أو سرير دافئ ، مع لمجة خفيفة على يسار الرئيس، وبعض الفواكه الجافة على يمينه، إلى جانب صرّة من الأفكار العظيمة والقرارات الخطيرة المصيريّة التي يلقيها الرئيس الواحد المتعدّد على الشعب الافتراضي المحتشد في المواقع الالكترونية ..، يا جماعة لدينا رؤساء لا ينامون بتاتا…

ــ لنتّفق نهائيّا: كلّ يساريّ هو بالضرورة غلام كافر مائع شاذّ حليف الغرب الشيطاني ولا حرمة لعرضه أو دمه، وكلّ يمينيّ هو بداهةً جاهل متخلّف متعصّب مكبوت تابع لقوى الظلام ويجب محوه من وجه الأرض،.. يا قوم اثبتوا في الوسط، فأخطر وأنكر التهم الموجّهة لأهل الوسط أنّهم جبناء ، وهي، كما ترون، تهمة بسيطة ومعقولة كما كان يقول بلقاسم المزداوي*، رحمه الله، تهمة محبّبة في زمن التكفير والتخوين .. والحريّة…

ــ يصرّ البعض على دعوتنا إلى التوجّه فورا إلى فلسطين المغتصبة لتحريرها من قبضة الصهيونية القذرة، وهذا خطاب جميل لا يعارضه كلّ شريف، شرط أن يكون لنا معمل واحد في الوطن العربي الواحد..، ينتج إبرة واحدة لنفقأ بها عين الكيان الغاصب…، هل سنهزم الأعداء بالشعر الحماسي والخطب الناريّة … كما دأبنا على ذلك من قرون .. لم لا؟ لعلّني معتوه…

ــ على فكرة، كان جسد المرأة وما يزال شغلنا الشاغل، ومعطّل طاقاتنا العلميّة والفكريّة والإبداعيّة..إلخ، ومشوّش ثوراتنا القديمة والحديثة، ولم يجرأ أحد على إلقاء المرأة وجسدها في البحر الأبيض المتوسّط، وتحديدا في المياه الدوليّة..، ليحرّرنا نهائيّا من هذا القيد العظيم الذي منعنا منذ كنّا، من التقدّم والنماء والازدهار والتفكير خاصة….

ــ يؤمن كلّ الإخوة الفرقاء أنّهم منتصرون إن شبّت فينا الفتنة ومع ذلك لا يبتسمون إلاّ لماما، وحدها الفتنة الناهضة توّا من مخدعها .. تضحك ملء شدقيها.. أوووووووف، حتّى الضحك لم يسلم من الحزن هذا المساء رغم استجارته بمقالة، خلتها مخصّصة للضحك فقط.

آخر القول:

” أين ضيّعتَ وجهك؟

في غابة الخبز أم في قفار الكتابةْ؟

وإلى أين تمضي بك الأبجديّة والحزن

يا طائرا ظنّت الريح أنّه تاب؟

وما تبت … لكنّها هدنة

كان لابدّ منها لتبكي قليلا على ما فقدت لتنزف حبر الكتابةْ “

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …