منصة الصباح

خالتي

خالتي

بقلم/ إبراهيم عثمونه

سأله المهندس ، هل ترى تلك السيدة التي تكنس وتُنظف أمام بابها ؟ أجابه بنعم . هل رأيتُ أين تقف وتضع قدميها الآن بالضبط ؟ نعم ، أجابه بنعم . إذن أسرِع ودق المسمار على حافة أثر قدميها فوق الأرض ، فاسرع الصبي الذي جاء معهم من طرابلس صحبة فريق من المهندسين ليضعوا وقتها خط شارع المهدية بمدينة “سبها” حاضرة جنوب ليبيا .

كانت هذه السيدة التي يشير إليها كبير المهندسين هي خالتي “مبروكة” حين سمعت صوت أقدام شخص يركض خلفها ومعه شاكوش ومسمار معدني ، وكان يثبت نظراته تماماً حيثُ كانت تقف وتضع أقدامها كما أوصاه المهندس ، فأي تحريف يميناً أو شمالاً يعني أن شارع المهدية في سبها سينحرف يميناً أو شمالاً .

لا أحد يعلم وقتها أنه حيثُ وقفت قدمي خالتي كانت النقطة التي حددها المهندس والتي قد يعود إليها كلما غابت عنه معالم الخريطة .

كان صوت أقدام الصبي الذي يركض خلفها مسموعة لها حين تركت هي مكنستها بالأرض وتراجعت خطوات إلى وراء الباب ، في حين وقف الصبي ودق المسمار حيثُ أوصاه المهندس عند حافة أثر قدميها . أشار ، قبل أن يدق أي شيء ، من مكانه إلى المهندس ليتأكد أنه حالياً في المكان الصحيح ، وحين لوَّح له المهندس الذي يقف خلف عدسة جهاز التخطيط وأذنَ له صار الصبي يدق قضيب المعدن . لا أحد يعلم وقتها لو أن خالتي لم تقف عند هذا المكان بل تنحت إلى مكان آخر مسافة عشرة أمتار مثلاً أو مائة متر لكان المهندس قد تنحى هو الآخر ، ولا أحد يعلم لو أنها فاتت خمسة مائة متر لكان حي المهدية بأكمله قد تزحزح عن مكانه خمسة مائة متر ، ولا أحد يعلم في سبها ، حاضرة جنوب ليبيا ، لو أن خالتي فاتت مسافة اثنين كيلومتر عندها كانت شوارع سبها ستتشكل هناك ، فأبعاد الأمكنة لا ترسمها الصدف ، بل تضع نقاطها أقدام مَن يحلون قبلنا ويخطون دروباً وطرقات وشوارعاً ستغدو حية بالمارة والمركبات . بقيتُ يومها خالتي داخل منزلها زهاء الساعة إلى أن يفرغ هؤلاء الذين يعملون ويدقون أمام منزلها ، ثم بعد حوالي ساعة عادت وخرجت لتُكمل عملها ، ومن يومها وإلى يومنا هذا وإلى الأبد والناس والمارة والمركبات والدول تسير ذهاباً وعودة في شارع المهدية على الخط الذي رسمه المهندس بناء على أثر قدمي خالتي .

يا للدموع كم تكون سخية أحياناً على مَن نُحب ، وكيف تكون قدرتهم عميقة على استدرارا دموعنا .
في بيت خالتي رأيت أول صنبور ماء ، هي مَن علمتني كيف أفتح الصنبور وكيف أغلقه ، وفي منزلها رأيتُ أول مصباح كهربائي ، ايضاً هي التي علمتني كيف أشعل المصباح وكيف أطفئه ، وفي منزلها رأيتُ أول دراجة وأول رغيف خبز يختلف عن خبز التنور .

رحلت في مارس 2010 لكن أثر قدميها على الأرض ما زال يُنظم حركة السير في حي المهدية بسبها ، تبدلت الدول على المكان وستتبدل لكن أثر خالتي لن يغادر مكانه .
رحمها الله .

شاهد أيضاً

داحس والكرة الليبية

  عبدالرزاق الداهش في إسبانيا هناك نادي ريال مدريد، وريال بيتيس، وريال مايوركا، في إنجلترا …