منصة الصباح

حَدَائِقُ جَميلَةٌ… وَطِباعٌ عَليلَةٌ

      منذ زمن وسكان طرابلس يحلمون بأن يروا مدينتهم تتخللها حدائق ومنتزهات، يحلمون بمساحة خضراء، فيها شجرة تلقي بظلها على شيخ أنهكه الصيف، وعشبٍ تلقي عليه أم حصيرتها، لتراقب أطفالها يلعبون بضع ساعات، وهرباً من جدران الشقق والبيوت التي تتوهج من حرارة الصيف.

ظلت طرابلس طويلاً تتعامل مع الحديقة كأنها كائن غريب، أو نوع من الرفاهية لا يليق بكل أحياءها، ولكن في السنوات الأخيرة، ظهر بعض النور الأخضر من بين رماد الخرسانة، فبدأت المدينة أخيراً تنجب حدائق ومنتزهات صغيرة. صحيح، أن عددها قليل بالنسبة لعدد السكان، ومساحاتها محدودة، لكنها تبقى بادرة أمل طال انتظارها.

تنفس الناس الصعداء، حملوا أطفالهم، واشتروا السجادات والمشروبات وأباريق الشاي والقهوة، وتوجهوا إلى أقرب حديقة، ولكن يا فرحة ما تمت، خرجوا من ضيق الشقق لكنهم خرجوا بالعادات نفسها، وربما بأسوأ منها.

تدخل الحديقة صباحاً فتراها قطعة من الأمل، تدخلها بعد الثانية فجراً، سيخيل إليك أنك في ساحة حرب، وكأن معركة قد دارت رحاها قبل ساعة…. عبوات العصير المهروسة، علب التونة المفتوحة، أكياس الشيبسي الفارغة، والأكياس تضرب بها الرياح في الأرجاء، والملاعق والأكواب البلاستيكية المكسورة، كلها في مشهد يومي معتاد.

ليس هذا فقط، بل حتى الحفاضات ترمى أحياناً بجوار جذوع الأشجار، وكأن الطفل قضى حاجته وقرر أهله أن يخلد الذكرى هناك.

أما الأطفال، فقد تحولوا إلى عناصر من الفيلق الخامس بالجيش الروماني، مهمتهم تدمير كل ما يمكن تدميره، المراجيح تعامل كأنها أهداف عسكرية، الشجيرات تقلع، الدراجات تقاد بتهور فوق العشب، تصطدم بأرجل الجالسين … ولا أحد يسأل: لماذا كل هذا الخراب؟

الحقيقة أن هذا السؤال يجب أن ألا يوجه إلى الأطفال، بل إلى أولياء الأمور الجالسين بجوارهم، يتفرجون على الفوضى وكأنها عرض مسرحي مجاني، والأسوأ أنهم أنفسهم في الليلة التالية يتذمرون من أن شركة الخدمات العامة لا تنظف المكان.

المحير فعلاً، أن هؤلاء الأطفال أنفسهم، تجدهم داخل منازلهم مثل العصافير في أقفاص ذهبية، لا يصرخون، ولا يركضون، لا يمسون شيئاً دون إذن، وإذا اقترب أحدهم من حوض الورد في فناء البيت، أقيمت عليه القيامة، وتحولت الأم إلى عقيد في شرطة البيئة تنزل أقصى العقوبات على الفاعل. لماذا هذا التناقض التربوي؟ ببساط، لأن الحديقة في البيت أملاك خاصة، أما الحديقة العامة فيعاملونها بمبدأ: رزق حكومة ربي يدومه.

ما يحدث في الحدائق العامة يشبه مشهدا عبثياً من مسرحية سوداء، فالدولة…. تنفق وتُجهز وتزرع … والمواطن يدخل بكامل عدته التخريبية…. يخرب، يتذمر، ثم يلتقط صورة “سيلفي” وهو تحث شجيرة صغيرة تقاوم لتعيش رغم ما يفعله الأطفال بأغصانها الصغيرة.

إننا بحاجة إلى ما يمكن تسميته بالمنتزه الداخلي، وهو ليس منتزها ترفيهيا بالمعنى الحرفي للمسمى، بل هو مساحة داخل ضمير كل ولي أمر، تزرع فيها بذور الاحترام، وتنمو فيها شجيرات الذوق العام، فمن لم يتعلم أن يرفع قمامته خلفه، لا يستحق أن يدخل الحديقة من الأساس، ومن يرى الحديقة مكانا لرمي النفايات، فالأفضل أن يبقى في شقته ويتفرج على الطبيعة عبر الشاشات.

د. علي عاشور

شاهد أيضاً

د.علي المبروك أبوقرين

الصحة العامة وصحة المجتمع

د.علي المبروك أبوقرين تتزايد التهديدات الصحية الوبائية ، والأمراض المزمنة المعقدة ، والأمراض النفسية والعقلية …