عمق بقلم / علي المقرحي
قد تصاب اللغة بالبكم ، فتثرثر وتثرثر دون أن تقول شيئا ودون أن تفيد معنىٓ ، يحدث ذلك في فترات الانحطاط الثقافي والحضاري للمجتمعات التي تتعاطى تلك اللغة ، واللغة كائن اجتماعي حي يتأثر بمجتمعه وما يكتظ به من فاعليات الحياة وصراعاتها ، تقدمها وتخلفها ، رفعتها وترديها ، سموها وانحطاطها ، واللغة إضافة إلى مشاركتها الأحياء حياتهم وتأثرها بتلك الحياة وتأثيرها فيها ، هي الكيان الوحيد أو هي الأداة المباشرة لارتباطهم بعضهم ببعض ، والإمكانية الأكثر موافقة لتفاهمهم “ إذا قيض لذلك التفاهم أن يتحقق في الواقع المعاش فعلا “ وألّا يظل مجرد حلم طوباوي ، ولا مثالاً أفلاطونياً مقطوع الصلة بالحياة والأحياء .
ولكن لنسأل قبل أن نسترسل في ثرثرة لا تقول شيئاً ، لنسأل عما تعنيه مفردتا ( الحياة ) و ( الأحياء ) ؟ وهل يمكن للغة أن تفيدنا في هذا السياق وأن تسندنا في بحثنا عن إجابة ، وتقينا التردي في وهدة الابتذال والثرثرة الفارغة ؟ .
يقول السيد المسيح عليه السلام ( الحرف يقتل ، أمّا الروح فتحيي ) ، وإذا نحن تأملنا في هذا القول الحكيم وفي حدود ما نحن بصدده ، فلن نجد من معنىٓ لروح اللغة سوى ( المعنى ) ، فما تفيده مفردة من مفردات اللغة هو ما يعبر عن حياتها أو عن موتها ، وليس يتوقف مدى حياة وحيوية لغة من اللغات على عدد مفرداتها وتفوقها في ذلك على غيرها من اللغات ، بل على قدر ما تنطوي من مفردات معافاة من الابتذال والإسفاف وقادرة على التعبير بدقة عما وُجِدَتْ للتعبير عنه أساساً .
مؤكد أن الحياة ليست هذا اللهاث العبثي في حلبة العيش القميء ، وليست أيضاً صراع الكل ضد الكل والمفضي في النهاية إلى إخفاق وخسارة الكل ، كما أن الحياة لا تتجسد في أي مظهر مستعار أو مصطنع من مظاهر الحياة ، ولا يبدو من أمل في تحقق الحياة دون الوعي بالذات ، “ وعي الحياة بذاتها ، ووعي الأحياء بذواتهم وبالحياة “ .
وما من شك في أهمية اللغة هنا ، فاللغة هي صوت الوعي المعبر عنه ، الأمر الذي يعني بداهةً أن لغة فرد أو مجتمع تدلل بدقة على مستوى الوعي لديه ، فلن يكون لدى من يسيء استعمال اللغة نطقاً أو كتابة ( إن من حيث نحوها أو حتى تركيب مفرداتها ) واعياً اللهم إلّا في أدنى مستويات الوعي ، والذي لا يعلو كثيرا عن مستوى التحسس اللمسي المباشر ، فأي مستوىً من الوعي ، لدى من يكتب مخاطباً امرأة بقوله ( إنتي بدلاً عن أنتِ ، أو لَكي بدل لكِ أو منكي بديلا عن منكِ ) وماذا عن الذي يكتب الرشيد هكذا ( الراشيد ) ، وتلك أمثلة ملتقطة من الصحف الحائطية ( على الطريقة الليبية ) ومن منشورات المواقع الاجتماعية على الإنترنت ، أما إذا ما التفتنا إلى الإعلام ، الذي يقال ( والله أعلم ) أن مهمته الأولى ومبرر وجوده ورسالته الاساسية هي الارتقاء بوعي الناس ، فسنفجع فعلاً بمدى الإسفاف والتهافت والفقر في المفردات المعبرة ، وضمور المعاني وتحجرها وهي تقدم في كليشيهات منتحلة تعاني منهما لغة المذيعين والمذيعات ، خصوصاً في برامج البث المباشر ، حيث تعتمد العامية لغة رسمية وتستبعد الفصحى ، و ما من سبب يفسر ذلك الإمر سوى الخوف من الفصحى الذي يدفع إلى تجاهلها والهروب منها بسبب الجهل بها ، إعلامنا (خصوصاً المباشر منه ) ومسؤولوه والعاملون فيه يعادون اللغة الفصحى لأن الناس أعداء ما جهلوا .
وليس ذلك لتأثر منهم بدعوات اعتماد العامية ونبذ الفصحى التي ظهرت في فترات سابقة ومازالت أصداؤها تتردد بين وقت وآخر وإن بخفوت وبأساليب مراوغة ، وليت الإمر كان كذلك ، إذن لَدَلَّ على وعي وإن كان مجافيا للعقل والمنطق ، لكنه يظل وعياً وتظل إمكانية التحاور معه ودحض مسوغاته أو التسليم بها متاحة ، لكن ما من فرصة للتحاور مع من لا يعي أهمية الحوار وخطورته ، ولا فارق لديه بين ثرثرة في مقهى أو ( مربوعة ) أو على رصيف عند ناصية زقاق ، أو أمام ناقل صوت في قاعة بث مباشر ، فكل ذلك سواء لديه ، وعندما تهيمن لغة الشارع بما يرين عليها من ملوثات الإبتذال والإسفاف على فكر ولغة ( الإعلامي ) الذي يفترض أنه المخوّل بتهذيب تلك اللغة والارتقاء بها ، فمعنى ذلك أن إعلامنا يرسف في أزمة مركبة ، تهيمن على لغته وعلى وعيه .
ثم أليس من المفارقات التي انتجتها مناهج التعليم المتخلفة التي أسست لهذا الابتذال ، أن يدعي لها واضعوها والمروجون لها ومسوقوها أنها جاءت بعد دراسات علمية مستفيضة وروعي في إعدادها كل الإعتبارات والحاجات التي تتطلبها التنمية والرقي المعرفي الأخلاقي والاجتماعي للطالب ، ثم لا تنتج إلا جحافل ليس فقط من الجاهلين باللغة ومكونات الوعي ، بل والأميين بالمعنى الحرفي لا المجازي .
فأية مناهج ،وأين العقلانية والموضوعية والواقعية من مناهج تعتمد في موادها المتعلقة باللغة من نحو وصرف ومطالعة وإنشاء وإملاء ، على اجترار نتاج العصر الجاهلي وشعر إمريءَ القيس وعنترة وتأبط شراً ، في الوقت الذي يتجاهل فيه واضعو تلك المناهج ( والأرجح أنهم يجهلون ) كتابات يوسف الشريف وخليفة الفاخري وعلي مصطفى المصراتي وزعيمة الباروني والصادق النيهوم وخليفة حسين مصطفى وشريفة القيادي ونادرة العويتي ومحمد الشلطامي ومرضية النعاس وخديجة الجهمي على سبيل المثال .
وذلك فوق جهلهم بحقيقة لا يختلف عليهاعاقلان ، وهي صلة المبدع الليبي الأقوى والأوثق بوجدان المواطن الليبي معلماً ومتعلماً ، ويقين أن إبداعه وحده البلسم الشافي والأمل الباقي أمامنا لإنقاذ لغتنا ووجداننا ووعينا من وهدة الانحطاط وغياهب التردي ، وتبقى أمنية غالية أن تدرج القراءة في مناهج العمل والاعداد والتأهيل الاعلامي ( قراءة الابداع الأدبي والفكري ) وأن تهتم وزارتا الثقافة والإعلام بتجهيز مكتبة في كل مرفق إعلامي ، علّنا نشهد تطوراً في لغتنا ووعينا وحياتنا.