منصة الصباح

حورية الشعر

قصة..

ترجمة: عمر أبوالقاسم الككلي

كانت العربة تسرع على المسرب الضيق محطمة الأوراق الجافة الهشة، الواقعة في مسارها.

كان مارك يعتمر قبعة مستديرة سوداء، وكان يحمل، كما هي العادة، قطعة زجاجية مربعة بالغة الشفافية، ذات حواف سميكة رسم عليها خط ذهبي بمثابة إطار. داوم على النظر، عبر هذه القطعة،  إلى الطريق والخضرة التي تتقارب وراءه خفيضة بعد أن تجتازها العربة، وكان يستقبل كل ما يقع عليه نظره من خلال قطعة الزجاج هذه. كان مارك يخربش بيسراه شيئا حول كل ما يراه عبر ذلك الزجاج الذي كان يقبض عليه بيمناه بقوة. كان أحيانا يكتب، مسبقا ومن أجل الحفاظ على الإيقاع، سطرا ما يلبث، للحظة، أن يجد نفسه مضطرا للنظر إليه عبر الزجاج. على سبيل المثال:

 

الأخضر

الفوار، الأحمر القاني اليانع،

والأصفر

المتهلل. كيف يأتون ويذهبون:

كمنازل

القمر،

كصديق

حقيقي، عدو حقيقي.

 

غنى الحوذي، بلغته، ألحانا بدت لمارك شديدة التداخل مع خواطره الشعرية التي لم يكن لديه شك في أن قوة ما شريرة، أو ساحرة بالأحرى، تكمن خلفها. لم يكن ممكنا لمارك، طوال الرحلة، رؤية وجه الحوذي. أدرك مارك أنه شبح. ليس شبحا بالمعنى الحرفي، ولكنه شبح بالنسبة إلى الدنيا، بالنسبة إلى الجياد، بالنسبة إلى مارك نفسه، وبالنسبة لكل شيء يمكن أن يرتبط به الناس مثلما يفعل البشر البسطاء العاديون. وهكذا تَفَاجأ مارك من أن للحوذي لغة خاصة، تخصه هو فقط. لغة تترجع فيها أصداء اللغات البشرية كافة، تناغم جملة من التهويدات، توافق مكابح القطارات مع صافراتها، سلاسة المياه، وكسل طائر عديم القدرة على الطيران. كان الحوذي يتبدى، من خلال الزجاج، تمثلا لما حوله: شعره عشب قصير، ظهره لحاء مخملي، وفرعان سميكان، بديا كما لو أنهما مثبتان على وجه الطريق، يمثلان ساقيه المنتهيتين بفردتي حذاء  تمثلان الأوراق الجافة المتحركة. نسي مارك، نسيانا تاما، المكان الذي يقصده والمكان الذي غادره. في الواقع نسي كل شيء عن نفسه. شعر كما لو أنه يغرق ويريد التشبث بشيء صلب وقاس وبالغ التحديد، إزاء عجزه التام في هذه الدنيا دائمة التحول. صار غناء الحوذي الآن يشبه تصويت الحيتان. مد يسراه تجاه الحوذي كما لو أن تلك الحركة إيماءة شخص يغرق ويناشد أن ينتشل.

 

استدار الحوذي و نظر إلى مارك في وجهه مباشرة. لم يتمكن مارك من تبين أي شكل أو هيئة، و لا أي لون أو ظل. إلا أنه كان ثمة وجه و كان كالماء. كماء بارد ينحدر عبر حلق رجل يعاني جفافا. تناول الحوذي الزجاج من يد مارك و جذبه خارج العربة.

 

كفت الدنيا عن الدوران تدريجيا. كانت الجياد ترعى بهدوء. اكتسى وجه مارك بالعرق، لكن الريح جففته و بردته. أخذ الحوذي الآن يخاطب، بلغته العذبة، مارك مباشرة بشيء ما، إلا أنه بدا على مارك كما لو أنه يستمع إلى شخص ما في الحلم. طافت سحابات وردية. جلس مارك تحت شجرة- شجرة لا تشبه أية شجرة رآها من قبل- و حاول تذكر ماضيه. كف عقله عن الامتثال لمفهوم الزمن. ما من خواطر تنبجس بذهنه. كان ذهنه كما لو أنه منظومة تصريف مياه هائلة فرغت مياهها. لم تكن مسدودة، و لكنها فارغة. فقط إيقاع خفيض يتردد في ذهنه خافتا، و كان يدرك أنه إيقاع الغناء الذي كان الحوذي يغنيه طوال الوقت، لكنه لا يتمكن من إيجاد كلماته.

 

(*) Snehal Vadher أديب هندي.

شاهد أيضاً

المنفي يبحث عودة السفارة الصينية واستئناف عملها بطرابلس

  ناقش رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، عودة السفارة الصينية واستئناف عملها بالعاصمة طرابلس. جاء …