منصة الصباح

قصة الموارد البشرية!

حسام الوحيشي

الوطنُ مَحطَّةُ انتِظارٍ طَويلةٌ نِسبيًّا. في البِدايةِ، كانَ الإنسانُ والصَّحراءُ والبحرُ، وكانتِ الرِّحلةُ الأولى إلى الشَّاطئِ. بينَ الرَّملِ والماءِ المالِحِ، كانتِ المَدينَةُ فَخًّا مُؤقَّتًا، تَستدرِجُ العابرينَ لِتصنَعَ منهم سُكّانَها، وتَمنَحَهُم أحلامًا جَديدةً، وأسماءً أيضًا، حتَّى يَنسَوا كيفَ وصَلوا.

هذه نِصفُ حِكايةِ المُهاجِرينَ، ونِصفُ حِكايةِ المُدُنِ؛ حيثُ قرَّرتِ الأرضُ أن تكونَ وعرَةً، والمياهُ أن تكونَ واحاتٍ وعُيونًا، وآبارًا، وأنهارًا، والبشرُ أن يكونوا حَضارَةً، ويكونَ النَّاسُ ضُيوفًا على أديمِها، الذي لم يَسألْهُم يومًا عن جوازاتِ سَفَرِهم.

منذُ عُقودٍ، تمتدُّ ليبيا كطريقٍ طَويلٍ، منَ الصَّحراءِ إلى البحرِ، يَجتمعُ فيها القادمونَ منَ الشَّرقِ، والهاربونَ منَ الجَنوبِ، والطَّامحونَ في الوصولِ إلى الشَّمالِ، والذَّاهبونَ إلى الغَربِ. لم تَسألْهُم الأصقاعُ عن أُصولِهم بشِدَّةٍ، أو مَقاصِدِهم بإلحاحٍ؛ لأنَّها كانت تَعرِفُ أنَّ الأقدامَ التي تَعبُرُها سيتحوَّلُ بعضُها إلى جُزءٍ منها، مَهما حاولَتْ أن تَتجاوَزَها بِسُرعةٍ.

جاءَها الفينيقيونَ تُجَّارًا، ثمَّ قرَّروا أنَّ السُّفُنَ تَحتاجُ إلى موانئَ. جاءَها الإغريقُ بَحثًا عن المرافئِ، ثمَّ قرَّروا أنَّ السُّهوبَ يُمكِنُ أن تَمنَحَهُم حُقولًا، فَزرَعوها وامتَزَجوا معَ القاطِنينَ فيها. جاءَها الرُّومانُ غُزاةً، ثمَّ قرَّروا أنَّ السَّيفَ لا يَكفي لِلحُكمِ، بَل يَحتاجُ إلى دَفتَرِ ضَرائِبَ يُرافِقُهُ. فكانتِ البلادُ جُزءًا من إمبراطوريّاتٍ عديدةٍ، لم تَترُكْ فيها مَعابدَها، ومَسارِحَها، وحَمَّاماتِها فقط، بَل تَحدَّثتْ لُغَتَها، ودُفِنَتْ في مَقابِرِها، وصارَتْ كَومةً من تُرابِها، حتَّى نَسِيَ الجَميعُ متى بَدأتِ القِصَّةُ، ومتى انتَهَتْ.

عندما جاءَ المُسلِمونَ، كانَ الأمرُ مُختلِفًا قليلًا. جاءوا فاتِحينَ، ثمَّ وَجَدوا أنَّ النَّخيلَ يُمنَحُ ظِلًّا، وأنَّ أمرَ الماءِ ليسَ بِعَسيرٍ، فاستقرُّوا وتَزوَّجوا، وصارَ دينُهُم هو الدِّينَ، ولُغَتُهُم هي اللُّغَةَ، ويَقينُهُم هو اليَقينَ، وصاروا أغلَبَ المُواطِنينَ، كما لو أنَّهم خُلِقوا هُنا مُنذُ الأزلِ. لكنَّ الأمازيغَ ما زالوا هُنا، صامِدينَ بجِوارِهم، رَغمَ العَواصِفِ، مُحمَّلينَ بِخُصوصِيَّاتِهِم الجَميلةِ.

استمرَّتِ المدينةُ بوابةً لِليمِّ، ورَتَّبَتْ شُؤونَها وَفقًا لِحَركةِ المَوجِ. دَخَلَها الإسبانُ، ثمَّ سَلَّموها لِفرسانِ القَدِّيسِ. ودَخَلَها الأتراكُ، ثمَّ افتَكَّها الإيطاليُّونَ، وكُلٌّ منهم تَرَكَ فيها بَصَماتِه: نُقوشًا على الجُدرانِ، وبِلاطًا في الشَّوارِعِ، وأزِقَّةً بِدفءِ قَديمٍ، وأصواتًا في الأسواقِ، وصَدىً في اللهَجاتِ، وكَلِماتٍ على الألْسِنَةِ، وخَرائِبَ تَلعَنُهُم، وأقواسًا وأَسوَارًا تُعلِنُهُم، وقِلاعًا تُؤثِّثُها اللُّقى الغابِرةُ، ويَتَنفَّسُ فيها التَّاريخُ. لكنَّ المدينةَ لم تَكُنْ تَأبَهُ؛ كانتْ تَعرِفُ أنَّ الذينَ يأتونَ بالبَواخِرِ يَرحَلونَ بِها يَومًا، وأمَّا الذينَ يَدخُلونَها خُفاةً، بأحلامٍ ثَقيلةٍ، وعِظامٍ مُرهَقةٍ، فَهُمُ الذينَ يَبقَونَ إلى ما شاءَ اللهُ، إلَّا القَليلَ.
استمرَّتِ المدينةُ كذلك بوابةً للعَجاجِ، ولكنَّها لم تُرتِّبْ شُؤونَها وَفقَ حَركةِ الكُثبانِ، بل رتَّبَتها القوافِلُ وَفقَ رَغبتِها. تَسرَّبتْ إلى مَفاصِلِها بِهُدوءٍ مُطلَقٍ، وفَعَلَتْ ما تُريدُ بِتَواطُؤٍ تامٍّ مِن حُكَّامِها، وبِمُوافقةٍ ضِمنيَّةٍ مِن قاطِنِيها. لم تَعُدِ المدينةُ تَسألُ عنِ الأسماءِ، بل عنِ الوظائِفِ: القادِمُ مِنَ الأناضولِ واليًا، والهارِبُ مِنَ القَحطِ مُزارِعًا، والتَّاجِرُ مِنَ الشَّامِ صاحِبَ دُكَّانٍ، والرَّقُّ العابرُ للأعراقِ يُوزِّعُ الخَدَمَ، والفارُّ مِنَ المَوتِ جُنديًّا بِعُيونٍ قاتِلةٍ. لم يَسألْ أحدٌ عنِ الوَثائِقِ، ولم تَعُدِ الأوراقُ الثُّبوتيَّةُ اختِراعًا بُيروقراطيًّا، بل دَورًا في المُجتمَعِ، وهذا ما تَقولُهُ السِّنونُ.

تَغيَّرَتِ الدُّهورُ، وأصبَحَتِ الدَّولةُ مَنطِقَ الخَريطَةِ، وأضافَتْ للتَّضاريسِ خُطوطًا مِنَ الحِبرِ، وأَسلاكًا شائِكَةً، ومَنافذَ، وقَوانينَ، وأَجهِزةَ هِجرةٍ، واتِّفاقيَّاتٍ دُوليَّةً، وأشياءَ أُخرى تُحكِمُ السَّيطرةَ على مَن يَدخُلُ، ومَن يَبقَى، وتُشيرُ إلى مَن تَسرَّبَ، ومَن تَدَفَّقَ، ومَن واصَلَ المَسيرَ، ومَن لَفَظَ البَحرُ جُثَّتَهُ، ومَن دَلَفَ إلى مَراكِزِ الإيواءِ مَقبوضًا عليه. أَرقامٌ تَقولُ البَياناتُ إنَّها “غَيرُ مُرحَّبٍ بِها”، ولكنَّها لم تَذكُرْ حِكايةَ البَقاءِ والاستِقرارِ، وتَجاهَلَتهم تَمامًا تَقرِيبًا. فهل تَعودُ ليبيا إلى البِدايةِ؟ هل تَعودُ إلى الزَّمَنِ الذي كانتْ فيهِ تَستَورِدُ البَشَرَ كما تَستَورِدُ التَّوابِلَ؟ تَطلُبُهُم لِلحَرثِ والرَّيِّ، ولِلحَربِ والبِناءِ، دونَ أن تُفكِّرَ فيهم على أنَّهُم جُزءٌ مِن مُستَقبَلِها، ولكنَّهُم يُفاجِئونَها في الأُفُقِ القادِمِ، ويَستَورِدونَها!

عندما بَدأَ المُهاجِرونَ المَجيءَ إلى ليبيا، كانَ الاعتِقادُ السَّائِدُ أنَّهُم مَخلوقاتٌ عابِرَةٌ لِلبَحرِ. وعندما تَحَوَّلَ جُزءٌ مِنهُم إلى عِمالَةٍ وافِدَةٍ، كانَ الاعتِقادُ أنَّهُم مَخلوقاتٌ جامِعَةٌ للمالِ مِن أَجلِ عُبورِ البحرِ. ولكنَّهُم كانوا عُمَّالًا فقط، يَدخُلونَ المَزارِعَ، ويَعمَلونَ في البِناءِ، ثمَّ لا يَرحَلونَ. عندما يَطلُبُ السُّوقُ يَدًا عامِلَةً جَديدةً، يُشمِّرونَ سَواعِدَهُم وَيَكدَحونَ. لم يَحسِبْ أحدٌ أنَّ أَطفَالَهُم سَيُولَدونَ هُنا، وأنَّ لَهَجاتِهِم سَتَختَلِطُ باللهَجاتِ المَحلِّيَّةِ، بَل سَيُتقِنونَها أَكثَرَ مِنَ اللِّيبيِّينَ القُدَماءِ، وأنَّهُم، شيئًا فشيئًا، سَيَتَحوَّلونَ مِن “مُهاجِرينَ غَيرِ شَرعِيِّينَ” و”عِمالَةٍ وافِدَةٍ” إلى سُكَّانٍ غَيرِ رَسميِّينَ، ثمَّ إلى حَقيقَةٍ لا يُمكِنُ إنكارُها.

لكنَّ المُدُنَ لا تَطرَحُ الأسئِلَةَ الصَّحيحَةَ إلَّا بَعدَ فَواتِ الأوانِ. المَدينَةُ التي كانَتْ تُطارِدُ المُهاجِرينَ لَيلًا، كانَتْ تَفتَحُ لهُم أَبوابَها نَهارًا، تَطلُبُ يَدَهُم الباذِلَةَ، وتَستَفيدُ مِن وُجودِهِم، ثمَّ تَدَّعِي أنَّها لا تَعرِفُهُم. المُشكِلَةُ لم تَكُنْ في المُهاجِرينَ، بَل في غِيابِ الذَّاكِرَةِ، في أنَّ المَدينَةَ لم تُدرِكْ أنَّها لَيسَتْ مُجرَّدَ مَحطَّةِ عُبورٍ، بَل مَصنَعٌ يُعيدُ تَشكِيلَ نَفسِهِ وَفقًا لِمَن يَعمَلُ فيهِ.

اليَومَ، تَتَعامَلُ ليبيا معَ الهِجرَةِ كما لو أنَّها ظاهِرَةٌ حَديثَةٌ، رَغمَ أنَّها قَديمَةٌ قِدَمَ الصَّحراءِ والبَحرِ نَفسِهِما. الدَّولَةُ القَوِيَّةُ والمُنهَكَةُ تُصدِرُ قَوانينَ لا يُطَبِّقُها أحدٌ، وتُعلِنُ حَمَلاتِ تَرحِيلٍ لا تَستَمِرُّ إلَّا أَيَّامًا، وتَفرِضُ إِجراءاتٍ حُدودِيَّةً لا تَمنَعُ سِوَى الأَضعَفِ مِنَ العُبورِ. المُهاجِرونَ لا يَحتاجونَ إلى تأشِيراتٍ، بَل إلى دَليلٍ يَعرِفُ الطُّرُقَ الخَلفِيَّةَ، ودَنانيرَ قَليلَةً في المَسارِبِ، وبَعضِ الصَّبرِ في مُواجَهَةِ الدَّورِيَّاتِ اللَّيلِيَّةِ.
الذي كانَ بِالأَمسِ مُجرَّدَ عابِرٍ، أَصبَحَ اليَومَ جُزءًا مِنَ السُّوقِ. والذي كانَ يَعمَلُ في الوَرَشِ، أَصبَحَ يُدِيرُ مَتجَرًا. والذي جاءَ يَبحَثُ عن مَأوًى مُؤقَّتٍ، وَجَدَ نَفسَهُ يَسكُنُ في ليبيا مُنذُ عِشرينَ عامًا.

لكنَّ ليبيا لا تَزالُ تَتَعامَلُ معَ هَؤُلاءِ كأنَّهُم ظِلالٌ بِلا أَسماءٍ، كأنَّهُم مُجرَّدُ أَرقامٍ يَجِبُ تَقليصُها، لا كأَشخاصٍ أَصبَحوا جُزءًا مِن نَسيجِها الاقتِصادِيِّ والاجتِماعِيِّ.

السُّؤالُ الحَقِيقِيُّ لَيسَ عن عَدَدِ المُهاجِرِينَ، بَل عن مَن يُسمَحُ لهُ بِالانتماءِ؟
هل يُمكِنُ لِليبيا أنْ تَستَمِرَّ في إنكارِ وُجودِ آلافِ الأَشخاصِ الذينَ لم يَعرِفوا وَطَنًا آخَرَ؟ هل يُمكِنُها أنْ تُعامِلَهُم كَمُؤقَّتِينَ إِلى الأَبدِ؟ وماذا لو كانَ هَؤُلاءِ الذينَ تَتَجاهَلُهُم اليَومَ، هُمُ الذينَ سَيُعيدُونَ بِنَاءَ مُدُنِها بَعدَ عُقودٍ؟

التَّاريخُ يُخبِرُنا أَنَّ الذينَ يُترَكونَ على الهامِشِ، لا يَختَفونَ، بَل يُصبِحونَ، معَ الزَّمنِ، جُزءًا مِنَ النَّصِّ.
وإِذا لَمْ يَكُنْ هُناكَ وَعْيٌ مُبَكِّرٌ بِهذِهِ الحَقيقَةِ، فَإِنَّ ليبيا سَتَجِدُ نَفسَها أَمامَ واقِعٍ جَديدٍ، لا تَملِكُ فيهِ سُلطَةً على إِعادَةِ تَرتِيبِ الأَسماءِ، لِأَنَّ المَدينَةَ سَتَقومُ بِذلِكَ بِنَفسِها، كما فَعَلَتْ عَبرَ كُلِّ الحُقَبِ الماضِيَةِ.
الذينَ جاؤوا بِالأَمسِ بِلا أَوراقٍ، هُم الذينَ سَيَكتُبونَ تَاريخَ الغَدِ.

شاهد أيضاً

مبادرة جديدة للحل السياسي

أكد النائب بالمجلس الرئاسي “عبدالله اللافي”، أن المبادرة السياسية الجديدة لا تتضمن تقسيم البلاد إلى …