عن مجلة Quillette
ترجمة عبدالسلام الغرياني
في تحليلٍ صادمٍ يكشف الخطر المحدق بالقيادة العلمية للأمة، يحذّر الفيزيائي البارز لورانس كراوس من أن سياسات إدارة ترامب المقترحة تُشكّل هجوماً صريحاً على البحث العلمي الجوهري الذي تقوم عليه القوة الاقتصادية والأمن العسكري لأمريكا. فخلف شعارات “العلم الذهبي” تختبئ تخفيضاتٌ ماليةٌ مدمرةٌ واجراءاتٌ أيديولوجيةٌ تفضّل المصالح السياسية قصيرة المدى على الاستثمار الاستراتيجي في المعرفة.
تمويلٌ تحت النار: إعدام المشاريع الحيوية
تستهدف مقترحات الميزانية الجديدة نحرَ مؤسسات العلوم الأساسية؛ إذ تواجه المؤسسة الوطنية للعلوم (NSF) قطعاً مالياً هائلاً بنسبة 56%، ما يعني تقليص ميزانيتها من 8.9 مليار دولار إلى 3.9 مليار فقط. هذه الضربة ليست معزولة، بل تمتد إلى وكالة ناسا والمعاهد الوطنية للصحة ووزارة الطاقة. ستكون النتائج كارثية: إلغاء 1,653 منحة بحثية نشطة حالياً، ودفن مشاريع رائدة مثل مرصد “ليغو” لاكتشاف موجات الجاذبية الذي غيّر فهمنا للكون، وتلسكوب “نانسي غريس رومان” الفضائي، ومصفوفة التلسكوبات الراديوية لاستكشاف أسرار الانفجار العظيم.
خطاب “العلم المستيقظ” وواقع الدمار الشامل
رغم أن كراوس يعترف بوجود مبالغات في تطبيق سياسات التنوع والمساواة والاندماج (DEI) – حيث تُخصّص 12% من منح NSF لبرامج “العدالة الاجتماعية النقدية” – إلا أنه يكشف أن التخفيضات تتجاوز هذا الإطار بكثير. فالمشاريع العلمية المحايدة في الفيزياء النووية والفلك والطب الحيوي تُحرم من التمويل بشكل عشوائي. حتى جامعات النخبة مثل هارفارد ستخسر تمويلاً حيوياً لعلماء فيزياء بارزين، مما يُعطّل تدريب جيل كامل من العقول الواعدة.
تفكيكٌ منهجيٌ لبنية العلم
لا تقتصر الحرب على التمويل، بل تمتد إلى تفكيك المؤسسات نفسها. وكالات علمية كبرى مثل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) تواجه تسريحاً جماعياً يصل إلى نصف موظفيها، بينما تجميد التوظيف يخنق قدرات الابتكار. وفي خطوةٍ تنذر بالخطر، يتم حل اللجان الاستشارية العلمية المستقلة أو استبدال أعضائها بممثلين من القطاع الصناعي يفتقرون للخبرة المتخصصة.
رقابةٌ أيديولوجيةٌ واستبدالٌ بالجهل
تتحول الحرب إلى حملة قمع منهجية؛ فالحظر يطال أي بحثٍ يتضمن مصطلحات مثل “الهوية الجندرية” أو “DEI”، بينما تُحذف بيانات التغير المناخي من المواقع الحكومية كما لو كانت جرائم. حتى التقارير العلمية الحيوية مثل النشرة الأسبوعية لمراكز السيطرة على الأمراض (CDC) حول تفشي الأمراض تُوقف فجأة. الأكثر إثارة للقلق هو تعيين شخصيات منكرة للعلم في مناصب حساسة، مثل تعيين روبرت كينيدي الابن – المعروف بمعارضته للتطعيم – في وزارة الصحة، وخبير الاقتصاد جاي باتاتشاريا في المعاهد الوطنية للصحة (NIH)، مما يقوض أسس صنع القرار المبني على الأدلة.
مفارقة الدفاع: أسلحةٌ بدلَ عقول
في تناقضٍ صارخ، تضخ الإدارة 11 مليار دولار إضافية لبرامج الأسلحة النووية – مبلغٌ يتجاوز الميزانية السنوية الكاملة لـ NSF – بينما تقطع التمويل عن الأبحاث الأساسية التي تُعتبر حجر الزاوية للتقدم التكنولوجي العسكري. يذكر كراوس أن هذا القرار يتجاهل حقيقةً جوهرية: البنية التحتية البحثية في الفيزياء هي التي تجعل تطوير وصيانة الترسانة النووية ممكناً أصلاً.
بدائل ضائعة وعواقب عالمية
يكشف كراوس عن بديلٍ منطقيٍّ مهمَل: لو أرادت الإدارة معاقبة التجاوزات في سياسات DEI، كان بالإمكان خفض ميزانية NSF بنسبة 12% لتتناسب مع حجم التمويل المخصص لها، بدلاً من التخفيض الكارثي البالغ 56%. كما يقترح حماية جذب الكفاءات العالمية مثل تجنيد عمالقة التكنولوجيا (إيلون ماسك نموذجاً). لكن الخيارات الحالية تدفع بالقيادة العلمية نحو الهاوية؛ فالصين وأوروبا تستعدان للاستفادة من تراجع أمريكا في مجالات حيوية مثل الحوسبة الكمومية وتطوير اللقاحات وعلوم المواد، مما يهدد تفوقها الاقتصادي والعسكري.
خطاب التبرير: “المعيار الذهبي” أم غطاءٌ للأجندة؟
تحاول إدارة ترامب تبرير هذه الإجراءات تحت شعار فرض “معيار ذهبي” للعلوم: أبحاث قابلة للتكرار وخالية من التحيز. وتستشهد بحوادث مثل تأثر إرشادات CDC لإعادة فتح المدارس بضغوط نقابات المعلمين. لكن كراوس يشير إلى أن هذه الحالات المعزولة لا تبرر الهجوم الشامل على المنظومة العلمية بأكملها.
صرخةٌ من القلب: العلم الذي يجعل الحياة تستحق الدفاع
يختتم كراوس بالاستشهاد بعبارةٍ خالدةٍ للفيزيائي روبرت ويلسون، مؤسس مختبر فيرميلاب، عندما سُئل عن قيمة البحث الأساسي: “لا علاقة له مباشرة بالدفاع عن بلدنا… إلا في جعله يستحق الدفاع عنه”. هذه الروح هي ما تُهدده السياسات الحالية – ليس المباني والتلسكوبات فحسب، بل الشغف بالاستكشاف الذي يحرك البشرية.
المشهد الأوسع: أمّةٌ تترنح
تشير البيانات إلى تسجيل 346 إجراءً حكومياً معادياً للعلم خلال عهد ترامب (2016-2021)، تتراوح بين الرقابة وتغيير الكوادر العلمية. وتُظهر استطلاعات وكالة حماية البيئة (EPA) ارتفاعاً صادماً في نسبة العلماء الذين يبلغون عن انتهاكات للنزاهة العلمية (من 28% عام 2016 إلى 43% عام 2018) خوفاً من الانتقام. “الموت بألف قطع” يُجسّد واقع المختبرات المغلقة والباحثين المهاجرين المطرودين، فيما يصفه الخبراء بـ”الهجرة الجماعية الصامتة” للعقول.
صفعةٌ للحضارة
تحت غطاء تصحيح أخطاء أكاديمية، تُقدم أمريكا على حرق كنوزها العلمية التي بنت عليها عظمتها. الضرر الحقيقي ليس في الميزانيات أو المنشورات، بل في قتل روح الفضول التي تُحرّك الحدود البشرية. بينما تتسارع الأمم الأخرى في سباق الابتكار، قد تُذكر هذه السياسات يوماً بأنها اللحظة التي تخلت فيها أمريكا عن مستقبلها لتحتضن أوهام ماضيها.