منصة الصباح

حرب الصحراء الليبية

روميل .. تراجيديا السقوط المنسي
الصحراء ولعبة الأستغماية .

كتب : عبد الحكيم كشاد

الصحراء لعبة ” استغماية” مثيرة حقا . استغماية تضيع عبرها اﻷبعاد ، ولا يعرف فيها كتف العدو من الصديق ، وحين تدخل الصحراء معمعة الحرب ، لا يتبقى في قلب ذلك الجندي كإنسان إلا آدميته ، وحفظ كرامته . معركة يدرك فيها هدف الحياة اﻷول البقاء . بغض النظر عن الحرب الدائرة وأهدافها . فطبيعة الصحراء في هذه الحرب لها شروطها ،إذ ربما وأنا أجد كتف عدوي في حالة يتساوى فيها مع كتفي تساندا في مواجهة حرب قديمة منذ أزل الطين ! ولو أنها بين إخوة أعداء ! .. وتبقى ما تفرضه طبيعة الصحراء على إنسان تعايش مع واقعها يوم بيوم ، ويقف فيها على أرض صلبة خاصة في حرب لطالما كان ضعيفا الإنسان في مواجهتها .. وهنا نتذكر مايعرف بإمثولة ” العصي ” التي حدثونا عنها ونحن صغار كأول درس للاتحاد . فطبيعة تساوى الكتفين هو ما تفرضه المعارك والحروب الطاحنة عندما يكون العتاد فيها من نوع آخر لا يملكه الطرفان المتحاربان ، و يبقى خارج كل الحسابات ، لأن سلسلة مفاجأته لا تنتهي ، وتبدو تلك العوامل – وهي تدور في ذهن القائد لحظة بلحظة ، تبدل مساراتها ، وتتغير فيها مواقف هذه الحرب حرب الصحراء – في حاجة إلى ترويض من نوع خاص ، ثمة أدوات مختلفة ، وطبيعة تعلن عن عناصرها ،رياح ، وغبار ، وحر ، وبرد ، رمال ذائبة في العيون ، وتبات ، وأمراض ، ونقص في المياه ، وقطعان متحاربة في مساحات شاسعة مفتوحة على بعضها ، وآفة جوع تهدد فم ذلك المقاتل من أجل البقاء ، ، ويظل ذلك الجندي سجينها في الواقع لأنه محتاج لترويض كل هذه العوامل ، وحسن التعامل معها لوجستيا ، أذا ما أراد كسب معركته ، و يظل عينه علىتموين ربما بعدت قوافله عن ساحات المعركة ، و هو ما يظل يؤرق القائد مهما علا شأن عظمته ، وقدرة قيادته في ذلك الجحيم الذي يجد
الجندي نفسه يتساوى فيه مع عدوه ! .. هذا مافهمه المرشال “روميل” جيدا عندما وطئت قدمه الصحراء الليبية مع فيلقه الأفريقي في مواجهة الجيش الثامن البريطاني الذي جاءه “مونتغمري” ليكلل هزائمه قبل “العلمين” بنجاح صاعق بعد أن توفرت شروطه بريا وبحريا وجويا .. وقبل ذلك كل العوامل اللوجستية للحرب .. لكن قبل ذلك كانت فتوحات الثعلب الألماني ” روميل” في الصحراء تثير الغيظ ، والأعجاب معا حتى في قلوب أعدئه أنفسهم يقول ” تشرشل” وهو يتابع معرك الصحراء عن روميل : ( إننا نواجه عبقرية مختلفة هذه المرة ) .. وفي حقيقة اﻷمر فأن النصر أو الهزيمة في هذه معركة أفريقيا كانا هناك بعيدا عند كل طرف في عاصمة البلدين . وما أتخذا سلفا في برلين أو لندن من قرار .. ونرجع إلى ذلك الجندي في تلك المساحات التي تفتح فمها باستمرار لابتلاعه ، وكم يبدو بائسا العدو إزاءها ! .. وهو يواجه إنسانا ويغالب حنينا ما ، وقد أنساه معركته الحقيقية ، فتاخذه الشفقة عليه ! ربما رأي فيه نفسه ، وإن ظل حنينا غائبا تفرضه قساوة طبيعة مكان تتجاور فيه الاكتاف ، ويصبح طرفا ثالثا في معركة التطويع هذه … هذا ما فهمه” روميل “وقصده ” تشرشل “باختلاف البدايات الشقية بالنهايات و “روميل” يضع قدمه على الأرض الليبية ، ويخوض معاركه الكاسحة . كان يرى بواقعية لعبة أخرى في حرب الصحراء ، وعليه أن يحل شفرتها وسط تضارب، وحيرة الجميع من مواقفه المفاجأة ، أما ما حدث بعد ذلك ،فهو وجعه الخاص .. وجع العارف، وسط غمغمة المتعارفين . وجع .. حمله ” روميل” لوحده وتحمل عبأه، ولم يتبق
منه إلا دموع ذلك الجندي ، وجراحه النازفه، والبكاء داخله ، وصراخ صوت اﻷلم ، والعطش ، وسف تراب الجوع ، وبشرية تقضي على آدميتها في تلك الصحراء ، وهو كل ماتبقى تحت الأوامر والرتب والنياشين ! … وقف “روميل”يتأمل . بدت الصحراء أمامه كاملة ، يري تراجع القوات الإيطالية غير الجاهزة ، وبلا فاعلية تقريبا ، وهي في حكم الموت .. ولم يعيه السؤال طويلا ،وهو يراها تتراجع أمام جيش مدرب ، له من الخبرة والجاهزية ما يتفوق به عليها .. تأمل الثعلب موقف الجنرال “غرتسياني” الذي لازال منتشيا بنيشان استحقاق الفتوحات اﻷخيرة
عائدا من حربه منذ سنوات قليلة أمام فصائل متناثرة ليس لها من عتاد إلا اﻹيمان في كل قلب مجاهد ، ومايحارب من أجله ، وقد كان لها شرف مواجهته ، ثم بعد ثمان سنوات ، ولا شيء سوى الهزيمة والتراجع أمام القوات البريطانية . بدا اﻷمر سخيفا ومفزعا . والجنرال الذي تعود أن يصطاد بالجبن في صحراء اعتبرها قطعة جاتو ! كان أشبه بنكتة أعادت النظر في الكيفية الذي كان عليها الجندي الإيطالي في حرب الصحراء ، وتبين أنه لم يخض حربا حقيقة بعد ، تراجعه المهين الذي لم تتعدل كفته حتى دخول قوات “روميل” ومبادرته بالهجوم الذي أوصله من سرت إلى العلمين. حينها انتهت محنة اﻷسير الطليق ” غرتسياني ” وانتهت به عودة إلى سجن الذات الذي لم يخرج منه أبدا
حرب الصحراء الليبية كانت مدرسة الفاشلين كما الناجحين من قادة عابرين أو أشباه مقيمين ! .. مدرسة تعلم فيها من أكبر ضابط إلى أصغر جندي قيمة المعارك التي تختلف على كل الجبهات ، والقتال فوق أرض مختلفة .
يلمع القادة في الحروب الحقيقية
الرجل الذي لم تجزئه الصحراء و نظر في كل إليها . خاض حربه حسب أمكاناته، وطبيعة اﻷرض التي يقف عليها ،كان أشبه برجل مهمات صعبة ، يطل على الخريطة ، ويضع في الخواصر نقاط إسناد بدبابيس في أمكنة غير متوقعة ، و يتهيأ لجمعها – بعد أن كان اتجه بها جنوبا – في عمليات مذهلة كسب بها اﻷرض ، وغير بها استراتيجية الحرب كلها .. كان ذلك قبل مماطلة دوغما السلطات العليا في بلده ، وقضاؤها على انتصاراته المتحققه ! . وكان ” روميل” في الحقيقة يملك مفاتيحها على اﻷرض ، ولكن يبدو أنهم أضاعوا القفل هناك أساسا ! الجيش الثامن الذي وصل سرت، وكان على مشارف طرابلس .. وفجأة يبدأ الهجوم المضاد إلى حدود ” العلمين” ببراعة أذهلت العدو ، وكشفت للطليان جهلهم بطبيعة المكان الذين يقفون على أرضه ، وكان ظنهم في جهله ، وهو الطارئ الضيف! فإذ به يعطي الدرس تلو الدرس في كيفية التعامل مع حرب الصحراء ، وكان أن تكيف مع جيشه المدرع بطبيعة الأرض ، بعد أن كان قد أمر أن يبقى في مكانه مدافعا .. لكن أنف الثعلب فيما سيقدم عليه لا يخطئ الشم ، بعيدا عن كل تلك الحسابات.. كانت مقدرة هذا القائد عجيبة في تحسس المكان ، وتوقع الحدث مع سرعة اتخاذ القرار الذي بدا مذهلا لمن حوله ! . لكن في الغيب نذر من حسابات خفية بما لا يوافق البيدر .. حسابات قلبت الموازين رأسا على عقب .. قيادة برلين المخلة لم تفئ بوعودها في النهاية ، قصة أخرى يعيدها التاريخ ضاحكا ، ويكرر بها مأساة سقوط القادة التراجيديين، وكأن لا ذاكرة للزمن … في يوم ما حقق جيش قرطاجة حروبا ظافرة ، وصل بها القائد “حنبعل” حاضرة أمبروطورية الرومان ، في التفافة مذهلة كانت أشبه بمعجزة في جبال الألب ، وذاع من صيت “حنبعل” ما حسدته عليه اﻷمثال السائرة ، لكن عقل البشر وما يعقبه من خيانات مذلة حطمت أنوف أمثال هؤلاء القادة المنتصرين ،كانوا في الواقع رهن حسابات اخرى ! .. يعترف “سيبو” القائد الروماني حين قتل “حنبعل” بأنه قتل أعظم قائدا في التاريخ .. كان “حنبعل” واحدا من هؤلاء القادة الكبار الذي خذلته خيانة من الخلف .. الكبار لايهزمون بطعنة رمح أو ضربة سيف بل عادة بطعنة من الخلف ! .. كان ” روميل” أداة مساعدة لما تفعله الطبيعة على اﻷرض كسب بمجاراتها ما أثار الغبار في عيني عدوه في كل اتجاه ومن حيث لا يتوقع ، وهو يتقدم بطريقة المرحلة مرحلة، ويستفرد بقطعات عدوه ، واحدة واحدة ، يعرف متى ينشر وحداته ، و يجمعها ضاربا بها في التفافة واحدة ، فكانت أشبه بدومات الرمال المتحركة . إن أردتم معرفة ما حدث اذهبو إلى الصحراء وعاينوا ما طمرته من آثار المعارك بين الكثبان ،وانصتوا جيدا إلى ذلك الصوت .. صوت المنقذ حين كان الخلاء يرمي بهيولاه الفراغ المستحيل .

شاهد أيضاً

مشاهد ساخرة من حياتنا المصرفية

أحلام الكميشي ليست فقط طوابير أصحاب الحسابات الجارية أمامها ما يترجم الهوة العميقة بين المصرف …