حامض حلو
جمعة بوكليب
1
المسافاتُ بين شرق وغرب وجنوب ليبيا تقلّصت في لحظات. المسافات التي فرقتنا طيلة السنوات الماضية انمحتْ، وصارت ليبيا كتلة واحدة متراصة من 6 مليون ليبي، باختلاف لهجاتهم. قلبٌ واحد ينبض بالألم، ويتقد بالغضب، ويتوقُ للأمل. قلبٌ واحدٌ، كبير، ينبض في صدور 6 مليون مواطن ليبي، في داخل ليبيا وخارجها. روحٌ واحدة انبثقت من حيث لا ندري، وسَمَتْ في لحظة زمنية، جعلتنا على قاب قوسين أو أدنى من الوطن – الحلم، أو الحلم – الوطن. هناك في تلك البقعة الشرقية من ليبيا، المسماة درنه، والمدن والبلدات المحيطة بها، اكتشف الليبيون أنفسهم. وأدركوا بعد سنوات من قسوة العذاب والفراق أن الجسد واحد، والروح واحدة، والحلم واحد.
هل كان لابد من فجيعة لكي نكتشف أنفسنا، ونعيد معا بألم ودموع الفقد، ونبض الوجد رتق ما تمزق من لحم نسيجنا؟ وهل كنّا في حاجة إلى ما يشبه الطوفان، لكي نصنع معا سفينة نجاتنا؟
2
فصلُ الصيف يتأهب للمغادرة. الملكُ يستعد للرحيل. قد آن الآوان. ارتدى كامل زينته، وأعد العدّةَ والزاد. وها هو واقفٌ بالباب، أمام الجميع، بعينين مغيمتين بسحب خريفية أقبلت مسرعة.
وأسفاه. ملكٌ يترك رعيته مغادراً. فصلُ صيفٍ آخر يتركنا راحلاً في طريقه إلى ما لانعرف، ولا نرى. فصلُ صيفٍ آخر، قد أكمل المشوار وأوفى بالوعد، وها هو الآن، نراه واقفاً بالباب، يرفع يده ملوّحاً بوداع، وكأنه يدرك مسبقاً أنه في عودته القادمة، بعد أشهر قليلة، سيفتقد رؤية وجوه كثيرة، كانت خلال الأعوام الماضية تحرص على أن تكون في مقدمة مستقبليه ّمرحّبة وضاحكة. ربما لذلك السبب يشعر الصيف بشيء من حزن شفيف، قد لا يختلف كثيراً عن حزننا نحن البشر، حين نقرر الرحيل ومغادرة من نحب ونهوى، ونعرف مسبقا أننا قد لا نلتقي ثانية.
في مثل هذا الوقت من العام الماضي، مثل فصل الصيف الماضي، رحلت الملكة أمي فجأة، ولن تعود. الملوك، مثل فصل الصيف، يعودون إلى عروشهم. وليس من العدل والانصاف ألا تعود الملكة أمي إلى عرشها في مملكة بيتنا.
3
أفتقدُ قراءةَ الشِعر. أفتقدُ الحبَّ . وأفتقدُ الحرية. الشِعر حُبٌّ وحُرّيةٌ. بوحُ الصباحات في مدن غريبة وباردة، وأنسُ الليالي الشجية، وزادُ القلوب المسكونة بالوحشة وبالوحدة، وتوقُ الأرواح التي تحلم بالطيران على أجنحة الخيال.
لا أعرف كم مضى من الزمن على آخر ديوان شِعر قراءته، رغم أن أرفف مكتبتي الخاصة تعجُّ بعشرات الدواوين، لعشرات الشعراء. ويبدو كذلك أن للشعر مواسمه وأوقاته. ويبدو أنني، في غفلة مني، وسط انشغالاتي العديدة، وضعت نفسي خارج دائرته الحميمة. عليَّ أن أجد طريقي عائداً إليه. الشِعر، كما نعرف جميعاً، لا يذهب إلى أحد، بل يحب من يجيئه، ويطرق بتوسل على بابه، قاصداً أنسه ومودته. أعرف أن المسافة طويلة، وأدرك مشاق الطريق. قبل ذلك يتوجب عليَّ أولاً، وقبل كل شيء، العمل جدّياً على تخليص نفسي من براثن شباك الوقت، التي أوقعت نفسي فيها، في الفترة الزمنية الأخيرة.