جمعة بوكليب
قولُ شيوخ الحيّ إنّ العمارة القديمة، كانت أول عمارة شُيدت في منطقة الظهرة. بناها في آواخر الخمسينيات من القرن الماضي رجل أعمال يهودي اسمه راكاح. كان بالعمارة أربعة طوابق وأربع عشر شقة. بمرور الوقت، ازدادت الطوابق طابقاً، والشقق عدداً.
الرجل العجوز سكنَ العمارة قبل أن يبلغ العشرين من عمره. شقّتهم في الطابق الثالث. ورغم أنّه لم يعش بها طويلاً، إلا أنّ علاقة ودية ربطته بها. فظل يحنُّ إليها في غربته. ويحسُّ بألفة وأمتنان كلما جاء زائراً لطرابلس، وأقام بها طيلة مدّة الزيارة.
تلك الليلة، كانت عمارتهم القديمة “تهتز من رأسها حتى قدمها” كما تقول أغنية شعبية، وليس طربًا ونشوةً. وكان الرجلُ العجوز يجلسُ منكمشاً من الرعب فوق سريره في زاوية من غرفته، يتمنّى لو كان واقفًا ضمن المنتظرين “ع موقف دارينا!”
هو لم يرَ الموقف المقصود في أغنية فيروز، ولا يعرف موقعه على خريطة لبنان المتشظية. لكنّه، في تلك الليلة المرعبة، حين كانت الدبابات والمدرعات والمدافع وهدير القنابل وأزيز الرصاص مثل وحوش منفلتة بألسنة نارية تلتهم كل من وما يأتي في طريقها، وكان أكثر من مليوني نسمة من سكان المدينة مرتعبين في بيوتهم، تحت تهديد الموت، تذكر هو أغنية فيروز تلك، وتمنّى لو كان ضمن المنتظرين في ذلك الموقف، الذي ربما لا يعرفه إلا مؤلف الأغنية، وقلة من الناس، ممن صدف وكانوا من أهالي “دارينا.”
ربما لأن المنتظرين في ذلك الموقف كانوا مجهولين، حسبما تقول الأغنية:” لا عرفنا أساميهم ولا عرفوا أسامينا.” أوربما لأنه لم يجرّب من قبل محنة العيش في قلب الرعب، منتظرا أن يأتيه موتٌ، على شكل قذيفة عمياء، مرسلة من مجهول معلوم. “موقف دارينا”، تلك الليلة (الحرفة)، هو ما جعله يحلّق بعيداً في خياله، هربًا من موت يلاحقه، محتميا بأناس غرباء، في محطة حافلات، في قرية منسية، منتظراً مالا يأتي.