منصة الصباح

يعطي بنته ويزيد عصيدة

جمعة بوكليب

زايد ناقص

لم يكن في حسباني، يوماً ما، أنني سأتحوّل إلى كاتب مقالة محترف بالمعنى الحرفي للكلمة، وفي مرحلة تُعد متقدمة زمنياً من عمري.

إذ منذ أن تفتحت عيناي على عالم القصة القصيرة والرواية، أحلم بأن أكون قاصاً وروائياً. وقضيت جل سنوات عمري أسعى إلى تحقيق ذلك الحلم. وفي الطريق إلى ذلك، تعرضت، مثل غيري، لكثير من المطبات والحواجز والموانع. ولأن التراجع والانسحاب لا محل لهما في حساباتي، لذلك لم يكن أمامي سوى محاولة التغلب على ما واجهني من صعاب، لأن الرجوع إلى الوراء لم يعد ممكناً. مضافا إلى ذلك أن المسافة المتبقية إلى تحقيق الحلم كانت أقصر بكثير من مسافة الرجوع إلى نقطة البداية. وكنت وقتذاك، ومن دون مبالغة، قد قطعت شوطاً لا بأس به، باعتراف كثيرين ممن كانوا يراقبون ويرصدون الساحة الادبية والتخلي كان يعني شيئاً واحداً، وهو أنني أخفقت في تحقيق ما تمنيت وأردت.

الحكاية قد تبدو غريبة بعض الشيء لدى البعض، لكنّها في حقيقة الأمر لا تختلف عن قضايا الحياة العادية اليومية وغرائبها و مصادفاتها. إذ كثيراً ما يحدث أن يبدأ المرء منا في السير في طريق قاصداً تحقيق حلمه في الحياة مهنياً، ويسعى إلى ذلك بكل السبل المتاحة، ثم ينتهي به الحال في مكان أخرى، ومهنة أخرى، لم تكن في حسبانه. وقد ينجح فيها ويشتهر ، ويعيش في وضع مالي قد يحسد عليه. لكن ذلك لا يمنع من أن تنتابه، من حين لآخر، لحظات يتمنى لو أنه واصل السير في رحلته وحقق حلمه الأول.

وبالتأكيد، يحدث ذلك في عالم الكتابة عموماً. إذ كثيراً ما يبدأ كاتب شاب رحلته في عالم الابداع في كتابة الشعر – على أمل أن يصير شاعراً. وفي فترة لاحقة من عمره، يهجر طريق الشعر، ويتحول إلى طريق القصة القصيرة أو الرواية أو النقد أو المسرح. وهذا يعني باختصار، أنني لست الوحيد الذي بدأ في طريق قاصداً لم جهة معينة، فأنتهى به الأمر في طريق أخرى، وفي جهة لا يجهلها تماماً، إلا أنها تكن ضمن حساباته أو أولوياته، ولا يفضلها كثيراً كذلك.

والحقيقة، أنني حين تغيرت الأمور، بعد إحالتي على المعاش، وجدتني مندفعاً في الطريق الجديدة، من دون تردد أو تضييع وقت في التوقف والأسئلة. بل بدأت في التعامل معها باعتيادية وبحيوية غير متوقعة، منهمكاً في كتابة المقالات، وكأنني أفعل ذلك من أعوام طويلة.
ومن حين لحين، حين يتعرض لي بعض الأصدقاء بالسؤال عن السبب وراء ذلك التحوّل الفجائي في خط سير الرحلة، أجيبهم قائلاً: اسألوا الظروف.

وأعترف الآن أن كتابة عدة مقالات في الأسبوع، في مختلف مجالات الحياة اليومية، وفي عدة صحف ومواقع، قد ساعدتني كثيراً على عدة مستويات وأعادت إليَّ ما تمكن العمل اليومي الروتيني من كبحه و قمعه ومنعه من الظهور والبروز. وأقصد بذلك إعادة علاقتي بالحياة، عبر الكتابة اليومية بشكل احترافي في مرحلة متقدمة من عمري، يُفترض فيها أن تصل تلك العلاقة إلى أدنى مستوياتها.

لذلك السبب، انتهز الفرصة لأعبر عن عظيم امتناني وجزيل شكري لكل الأصدقاء، الذين قدموا لي أيادي العون، وانتشلوني من ركاكة وملل مرحلة التقاعد، بأن فتحوا أمامي الأبواب، واستضافوني على صفحات صحفهم، أو مواقعهم على الانترنت، لأكون ضيفاً أسبوعياً، وبمقابل مالي. وهم في ذلك لا يختلفون عن من يعطيك بنته ويزيدك عصيدة.”

شاهد أيضاً

كيف نعيد ترتيب الأشياء في حياتنا؟ كتاب “عبودية الكراكيب” يدلنا على الطريقة

تأخذ الكاتبة البريطانية كارين كينجستون القارئ في رحلة طويلة للتخلص من عبء الماضي والأشياء التي …