زايد…ناقص
غَزّة وسؤالُ التهجير
للكاتب : جمعة بوكليب
الحروبُ قصصٌ منفصلةٌ ومستقلةٌ. أوجهُ الشبه بين حرب وأخرى، مثل تلك التي بين قصة وأخرى، مهما تقاربت لا تقف حائلاً أمام حقيقة أنها مختلفة ومستقلة. وحين تبدأ حربٌ ما، في جهة ما من أركان الدنيا، تتوارى الحقيقة عن الأنظار، وتستأسد الأكاذيب، وتطفو على السطح أسئلة بأنياب حادّة، ولا إجابات.
وفي الحرب الدائرة الآن في قطاع غزّة، رغم كل الوضوح، لا شيء يبدو واضحاً. وإذا كان الهدف من كل حرب هو تحقيق أهداف السياسة بالقوة، فإن الأهداف السياسية الاسرائيلية من شنّ الحرب ليس الانتقام من الهزيمة التي ألحقها مقاتلو حماس بجيشها وعتادها وأنظمتها التقنية الهائلة في يوم 7 أكتوبر الجاري. ذلك أن حماس ما كانت لتكون عليه لولا دعم الحكومات الاسرائيلية المختلفة. فالدولة الصهيونية فتحت المجال أمام حماس لتنهض وتكبر، بغرض أن تُضعف السلطة الفلسطينية في رام الله، وتخرجها من المعادلة. لكن السحر أنقلب على الساحر، وعلى الساحر الآن البحث عن وصفة سحرية جديدة.
والوصفة الجديدة، ليست جديدة تماماً، بل قديمة، وعليه إعادتها إلى الحياة: تهجير سكان غزّة إلى بقعة نائية في صحراء سيناء، أو في جهة قريبة منها، وتهويد المدينة، كما فعل من قبل في عام 1948، وعام 1967.
ما يحدث في غزّة من قتل وتدمير بأعثى آلة عسكرية وأشرسها في كل الشرق الأوسط، يحدث أمام أعين العام وأسماعه. والدبابات والمدرعات وآلاف الجند ينتظرون انتهاء سلاح الطيران من تمهيد الأرض، للتقدم والسيطرة على المدينة. والحكومة الإسرائيلية تطلب من السكان الجلاء عن غزّة إلى حين انتهاء العمليات الحربية! والسلطة الفلسطينية في رام الله، منخورة باللصوص والفاسدين، وعاجزة عن فعل أي شيء، و لا ترغب في فعل شيء. بل ومن الممكن أن البعض من قادتها يتمنّون القضاء على حماس بسرعة أكبر. والحكومات العربية تراقب الموقف من بعيد، وتلتزم الصمت، لأن ماما أمريكا حاضرة في الميدان، وفي يدها عصا غليظة جاهزة لضرب كل من تُسوّل له نفسه الكلام.
هذه الحربُ قصةٌ أخرى مختلفة، لا تشبه ما سبقها من حروب. والمنطقة كلها الآن تقف على أصابع الأقدام تحفّزاً. وحاملات الطائرات والقطع البحرية الأنجلو أمريكية تقف في مياه البحر المتوسط قبالة ساحل غزّة على أهبّة الاستعداد للتدخل، في أي لحظة إلى جانب المحتل. والحكومات الغربية منحت إسرائيل صكاً على بياض لفعل ما تشاء وبالطريقة التي تراها مناسبة.
ووزير خارجية أمريكا يطوف بدول المنطقة محذّراً. والحقيقة هي ما تقوله الحكومة الإسرائيلية، وعلى شعوب دول المنطقة وحكامها قبولها والتزام الصمت. والصمتُ حارقٌ، وخيارٌ صعبٌ، لكن أصعب منه الموت الذي يتجرعه الفلسطينيون في غزّة كل ثانية. وأمَرُّ من الموت أن يجبروا على ترك مدينتهم، والبحث عن ملجأ آمن. ولم يعد في العالم ملاجئ. واللاجئون من كل جنسيات الدنيا يقطعون الصحارى ويعبرون البحور بحثاً عن ملاجئ قد توفر لهم حياة إنسانية كريمة وآمنة، لكنهم يصدون، وتقفل بقسوة في وجوههم الأبواب والمنافذ.
هذه الحربُ قصةٌ أخرى، مختلفة عما سبقها، وليست الأخيرة بأي حال. حتى وأن نجح الصهاينة والغرب في القضاء نهائياً على حركة حماس، ستبرز حماس أخرى، بشكل آخر وعلى نحو آخر. وجود الاحتلال سبب لوجود المقاومة. وما دام الاسرائيليون يرفضون منح الفلسطينين حق العيش بحرية في أرضهم، لن تزول المقاومة، بل حتماً ستظهر في أشكال أخرى، قد تكون أكثر عنفاً مما حدث في الأعوام الماضية، ويحدث، أمام أعين العالم وأسماعه، الآن.