منصة الصباح

عزفٌ منفردٌ على مقاسي وآخرين

جمعة بوكليب

زايد…ناقص

أيامٌ متشابهةٌ تمرُّ بي مثل ظلال. بطيئةٌ على القلب. ثقيلةٌ على الروح. مثلُ جملة بلا فواصل، تتمدد على سطور كتابٍ مركونٍ على رفّ في مكتبة، لم تعد تستقطب أهتمام أحد. أسابيعٌ متلاحقةٌ مكررة، على مقام مهجور، لم يعد يستثير القلوب، بلا مرحٍ أو بهجةٍ أو حُبّ امرأة ” يذرذرني ندىً في غابة الصباح.” شهورٌ طويلة تتوالى تباعاً، مثلُ غيوم حالكةُ الدُكنةِ.

وأنا- لم أعُد أعرفُ من أنا- أخطو في الزمن مقترباً، بتردد وخوف، من مغارة عامي الثاني والسبعين، كما يدنو مقترباً قطارٌ قديمٌ من محطة أخيرة، يُحالُ بعدها خارج الخدمة. يركنُ بإهمال في ساحة كبيرة، مثل مقبرة، ويُترك عُرضة لتبدلات الفصول، وتقلّبات الطقس، وتراكم الصدأ وآلام النسيان.
2
شتلةُ الخزامى فرنسيةٌ. اشتريتها من محلٍّ متخصص في بيع الشتلات والأصص والبذور وباقات الورود، وكل ما يحول، عبر الزمن، بين القلب والنسيان.

المحلُّ لا يبعد كثيراً عن مقر سكناي. إلا أن زيارتي تلك كانت الأولى، وقد تكون الأخيرة، وبنيّة شراء شتلة خزامى.
حين دخلت المحلَّ وسألتُ البائعة، قالت لي: لدينا شتلات خُزامى فرنسي؟

استفسرتُ منها عن الفرق بينه والخزامى الانجليزي.

ابتسمت. وقالت ربما كالفرق بين باريس ولندن.

في الماضي، زرتُ باريس مرتين متباعدتين زمنياً، ولا أدّعي بها معرفةً أو شغفاً. وعشتُ في لندن قرابة ثلاثة عقود، ولا تدّعي بي معرفة أوشغفاً.

عدتُ بالشتلة إلى البيت. زرعتُها في تربة حديقة منزلي الخلفية.

الخزامى الفرنسي لم تطب له الإقامة في تربة حديقة منزلية انجليزية.

فذبُلَ وهَلكَ. فتمنّيت لو أنّه- لكي لا يذبل ويموت غريباً- قلّدني، وتظاهر بالتصالح مع الغربة مؤقتاً، على أمل أن تتغير الأمور، واحتمال أن يعود، يوماً ما، إلى تربته.

3
مثلُ شعير فوق حجر رحى. أدور أدور، وأردّ إليها: محطةُ قطارات لندن- واترلو
يحدودبُ ظهري. تثقل حركةُ قدميّ. يبطيء خطوي. وكأس قلبي تفيض بأوجاعها. رغم مرور السنين، وكثرة ترددي، مازالتْ لا تعيرني التفاتاً أو اهتماماً. فأحرص، من جانبي، على رد التجاهل بتجاهل مثله، أو بأفضل منه. وأعبرها صامتاً مثل شبح: محطةُ قطارات لندن- واترلو.
أصِلُها، في العادة، متأنياً، بعد انقصاء ساعة الذروة صباحاً، قادماً من “ورويستر بارك”، على متن قطار أغادره على مهل، وأترك قدميّ تقودانني على لمعان أرضية ردهتها متفادياً زحام المسافرين: محطةُ قطارات لندن- واترلو.

لا أحلام نسيتها، يوماً ما، على رخام أرضيتها اللامعة، وأعود بحثاً عنها في قسم المفقودات، أو بين خفايا زواياها العديدة. ولا ذكريات ألتقط شظاياها وأستعيدها.

محطةُ قطارات لندن – واترلو:
لماذا أصلها متأنيّاً وحيداً، وأغادرها على عجل وحيداً؟

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …