جمعة بوكليب
جملةٌ ربما سمعتُها من أمّكَ وأنتَ صغيرٌ، لدى مبيتكم ضيوفاً في بيت أحد أقاربكم، ولاتستطيع النوم لأن البراغيث والبعوض تلسع لحمك الطري وتجعلم تهرش جلدك بأظافرك حتى تدميه. فتشكي متألماً لأمك المستلقية بجانبك. ولأنها لا تستطيع فعل شيء يحول بينك وبين تلك اللسعات المتواصلة وهرش جلدك، تقول لك بهمس مشجعة ومصبّرة:” ليلة وعقابها صبح.” إلا أن الصبح الموعود يتأخر في الوصول. وحين يأتي لا تراه، لأنّك قبل حلوله، بساعة أو اثنتين، تكون قد استنفدت كل قواك، وسرقك سباتٌ عميق.
“ليلة وعقابها صبح.”
ربما تقولها إلى رفيق سفر، وأنتما مسافران معاً، تقطعان مسافة بين بلدين في قطار قديم، تجلسان متجاورين في عربة تكاد تكون خالية من المسافرين. التعب يحيلكما إلى جسدين منهكين، والنعاس يثقل أجفان العيون، لكنكما لا تستطيعان النوم بسبب ضجة عجلات القطار على السكة الحديدية. وليس أمامكما من حلّ سوى التدخين والصبر، في اننظار الصبح. لكن الصبح يتأخر في الوصول. وفي الواقع الصبح يأتي في موعده. لكنكما من شدة التعب تشعران بتأخره. وحين يزداد تأفف رفيقك علواً من التعب ويكثر من شكواه، تتذكر أنت ما كانت تقوله لك أمّك صغيراً، وتقول له بلهجة ودّية ومشجعة:” ليلة وعقابها صبح.”
“ليلة وعقابها صبح.”
تقولها لنفسك وأنت تعرف أن الصبح القادم في الطريق نحوك، ويحول بينك وبين المشكلة التي وقعت فيها، وأدّت بك إلى التواجد في زنزانة مغلقة بقفل حديدي، في مركز شرطة، نتيجة كلمة تسرّعت في قولها، وأدت إلى خناقة بينك وبين شخص آخر في مقهى ليلي، في مدينة لم تزرها من قبل، ولا يعرفك فيها أحد. ومراكزالشرطة هي مراكز الشرطة أينما كانت، باختلافات صغيرة. إلا أنّها جميعاً آخر مكان تتمنّى أن تكون فيه. هناك، ربما تجد نفسك وحيداً، وسط أناس لا تعرفهم ولا تتكلم لغتهم، تقبعون وراء باب حديدي مغلق، في انتظار أن يجيء الصبح، وتتمكن من اقناع ضابط التحقيق من حسن نيّتك، وأنّك لم تكن تقصد بما قلت اهانة أحد. وتدفع غرامة مالية، ويطلق سراحك. لكن الليل طويل. فتقول مواسياً نفسك:” ليلة وعقابها صبح.”
“ليلة وعقابها صبح.”
جملةٌ قد تقولها لأطفالك الخائفين في الليل، وأزيز الرصاص وهدير الدبابات والقواذف يهز البيت بمن وبما فيه، فيصرخ أطفالك من الخوف، ويلودون بك وبأمهم، وليس بمقدورك فعل شيء، سوى الانتقال بهم من مكان إلى مكان في داخل البيت، كلما اقترب أزير الرصاص منكم. هناك في تلك اللحظات، تجد نفسك من دون شعور تردد على مسامعهم: ” ليلة وعقابها صبح.”
الصبحُ، في كل الحالات المذكورة أعلاه وغيرها، يمثل الفرج. وكأن الصبحَ رجلٌ قادمٌ من بعيد، يحمل في يديه مفاتيح كثيرة، ولا شغل له إلا حلَّ أقفال الأبواب المغلقة، التي تفصل بيننا وبين الحياة. الصبحُ هو الأمل الذي في شدّة المحنة يتلاشى من أذهاننا وقلوبنا، بسبب ما يعترينا من خوف على حيواتنا. لكنه دوماً يأتي في وقته، وإن كانت تنتابنا لحظات نحسُّ فيها بأنه لن يأتي مطلقاً.
” ليلة وعقابها صبح.”
جملة أذكّر بها كل الذين فقدوا الأمل في ليبيا، وصاروا يحسّون بأن الليل المحيط ببلادنا سيطول وربما إلى ما لانهاية. وهو معذرون في ذلك. لكن الصبح سيأتي حتماً في موعده، وينجلي بإذن الله هذا الليل المعتم والمخيف والطويل.