محمد الهادي الجزيري
توجد شعريّة تغيب عن روحي وذهني ردحا من الزمن إلى أن تربكني فجأة ، مثل وردة رهيفة يرميني بها أحد عشّاق الحياة مستنطقي اللغات الحيّة والميتة، كالشاعر الفرنسي الراحل ” أوجين قيولفيك ” الذي أذهلني وأفحمني كما يجب بفداحة نظرته التأمّليّة إلى العالم وإلى شكل إقامة الإنسان فيه، وكان ذلك مطلع التسعينات من القرن الماضي ، حين اختليت بباقة من مجاميعه الشعريّة ، علما أنّنا جميعا معرّضون للدهشة واستصغار النفس في كلّ إطلالة جديدة على كتاب ما، فقد يحدث أن تتورّط العين في مقطع بهيّ مختال فخور، مغرور بتكثيفه العالي ، معتدّ بما يضمّه من ذكاء إنساني ورهافة روح ، فيسقط القارئ وخاصة إذا كان مبدعا عربيّا ذا نرجسيّة عالية، يسقط من شاهق وهو يردّد المقطع الذي طعنه:
” نحرتني عينا ذاك الأندلسي
فأعدّوا لي كفنا أزرق *”.
يدرك المسكين أنّ العالم يضجّ بشعريّات عديدة لا تحصى، وفي خضمّ اختناقه بحرير الإيماءة وحبل المجاز الجارح، يفقه ولو للحظات أنّ العرب رغم إدمانهم الشعريّ لا يملكون ” الحقيقة الشعريّة ” ، إذ لا حقيقة غير اختلاف الشعريّة بين أمّة وأخرى، وتباين نظرات الأفراد والشعوب إلى الحياة وتفاصيلها المتشابكة المتداخلة مثل … لاشيء.. غير الحياة نفسها.
شعريّات مختلفة وكثيرة يستبطنها الكائن الإنساني ويحتضنها كلّ شكل أدبي وفنّي وإبداعي بما في ذلك القصيدة طبعا، وصراحة بي خدر لذيذ وموجع أيضا، فقد انتهيت منذ قليل من إعادة قراءة رواية الكاتب الشيلي أنطونيو سكارميتا ” ساعي بريد نيرودا ” ، الصادرة عن دار مسكيلياني للنشر، بفضل جنون صاحبها الشاعر شوقي العنيزي، هذا الانتحاري الذي قرّر في ظلّ كساد سوق الكتاب، وفي ملكوت القطيعة المتفشّية بين الكتاب والقارئ، أن يحتفي بالأدب العالمي وذلك بالتورّط الاختياري في إصدار هذا المتن الروائيّ الشعريّ الجميل ورواية أخرى هي ” حديقة الصخور” للمذهل اليوناني نيكوس كازنتزاكي، هذه العمليّة الانتحاريّة الثقافيّة تندرج ضمن سلسلة ” ألف راء: علامات في الرواية العالميّة ”..ومازال الخير قادما ..أراه من بعيد…
” ساعي بريد نيرودا ” قصّة حبّ وجموح وتواضع …، حبّ ” ماريو ” الجامح للزهرة البريّة ” باتريثيا ” ، وتواضع الكبير بابلو نيرودا في علاقته بساعي بريده البسيط المندلق كجدول جبليّ حرّ، قرأت الكثير من الروايات وهذه إحدى الجواهر التي أضاءت ليل التفاهة الأدبية الذي أتخبّط فيه ، جرّاء تجرّعي لكتب كثيرة رغبة مني في الاطلاع على ما يكتب وما تجرّبه الأقلام … ، وأستطيع القول أنّني توغّلت في متن الاستعارة الباذخة والمجاز الناضج ، فرواية ساعي بريد نيرودا متن الحياة وعشّاقها ، متن الشعريّة الأخرى التي لن يمسكها إلاّ من له القدرة التامّة على التعلّم من الآخرين، وليس مكتفيا بذاته وسكينته وشعريّة السلف المقدّسة…
نقرأ في هذه الرواية القصيدة مثلا:
” الملح نسيان الأمواج “
” قال لي إنّ ابتسامتي تمتدّ مثل فراشة على وجهي “
” قال إنّ ضحكتي موجة فضّة مباغتة “
” قال إنّه سعيد باستلقائه إلى جوار شابة طاهرة ، كأنّه بجانب محيط أبيض “
أمّا أنا فقد قال لي أنطونيو سكارميتا : لا تطمئن أبدا إلى تجربتك وإن اتفق الأعداء والأصدقاء والغرباء على تميّزها ، وهمس لي : واصل كدّك المعرفيّ وجهدك الإبداعي فلعلّك تثمر شعريّة جديدة ، تضيفها إلى الحياة … وتعكّر بها مزاج الرداءة المهيمنة على الأرض والأوراق …..
*مقطع شعريّ لشاعر إسباني مجهول