منصة الصباح

تكنولوجيا

زايد..ناقص

جمعة بوكليب

 

الكتبُ وحدها، على أهميتها، لم تعدّْ كالسابق، تغيّر العالم وتغيّرنا بما تحمله محتوياتها من أفكار ونظريات ومعارف: تحيا التكنولوجيا.

صرنا، في القرن الحادي والعشرين،  نعيش في رحاب عالم تقوده تكنولوجيا متقدمة، وذكية، تطلع علينا، كل يوم، قادمة  من مصانع بعيدة، في مختلف البلدان.  نحن، الآن، شئنا أم أبينا، كائنات تكنولوجية، نخوض تجربة حياتية مختلفة جداً، في عالم تقني معقد، تسيطر عليه وتحركه شركات ضخمة، غرباً وشرقاً،  بما تنجزه من فتوحات تقنية، يوماً بعد آخر.

الحياة في عالم متغير، يتحرك بايقاع مختلف عما ألفناه قبل وصولها، وشديد السرعة، أمر، بلا شك، مثير لاستثارة النفوس وللتطور الانساني عموماً،  لكنه، في نفس الوقت، ليس مجانياً. هناك أثمان تدفع مقابله بعلمنا أو بدونه.  التكنولوجيا حوّلت العالم بقاراته الخمس، إلى قرية بشرية صغيرة. الجغرافيا التي حتمت بمسافاتها وبما خلقته من موانع تباعدنا، تراجعت، ، حتى لم نعد نعبأ بها.  ومنذ أن نفتح عيوننا على ضوء النهار صباحاً، وحتى موعد اسدال ستائر حجرات نومنا، والخلود إلى راحة النوم ليلاً، ونحن  مستغرقون، بعيوننا وبعقولنا وبقلوبنا في التعامل مع أجهزة تكنولوجية ذكية. وبمرور الوقت،  وبسرعة ملفتة، تأقلمنا وتكيفنا مع الأوضاع المعيشية الجديدة، التي فرضها التقدم التكنولوجي علينا، وتمكنا من إعادة دوزنة ايقاع قلوبنا ليستق مع ايقاعات الدنيا الجديدة من حولنا. هللويا ..هللويا للكائن التكنولوجي الجديد.

الحقيقة  أن التكنولوجيا الجديدة والذكية، مثل الذرة سلاح ذو حدين. وعُملة بوجهين. على الجانب الثاني منها تتغير الصورة، وتتحول النعمة التي نرفل فيها إلى نقمة. والسبب، أننا، أقصد بني البشر، بتحولنا غلى كائنات تكنولوجية، صرنا مسجونين في ملفاتها، التي تحتوي كل تفاصيل حياتنا. وتلك التفاصيل، على قلتها أو كثرتها، تصل تباعاً إلى  أجهزة أمنية حكومية. وصار بإمكان الحكومات، في كل مكان، الالمام بكل تحركات ولقاءات وأحاديث مواطنيها. الكاميرات التي توضع في شوارع المدن، في مختلف بلدان العالم، قادرة على اكتشاف ملامح وجوهنا، أينما كنا، ولا يمكن الفرار من رصدها ومراقبتها. وقرأتُ مرّة أن المواطن البريطاني يرصد من قبل تلك الكاميرات بمعدل 11 آلف مرة يومياً. في الشوارع وفي السوبرماركات وفي الحافلات والقطارات وفي الحوانيت والمقاهي والحانات والمطاعم. وقرأت ايضاً أن بمقدور الاجهزة الأمنية البريطانية التجسس على المواطنين من خلال أجهزة التلفزيون الذكية، وهم جالسون على آرائك في منازلهم يشاهدون برامجها. ومن خلال أجهزة الحاسوب الخاصة بهم!

التجسس على المواطنين ليس مقتصراً على الأجهزة الأمنية، بل يشمل أيضا المجرمين. فالتشكيلات الاجرامية في عالمنا اليوم تطورت هي الاخرى وصار بامكانها من خلال نفس الاجهزة التي نستخدمها مراقبة تحركاتنا ورصدها، والتسلل إلى بيوتنا، وحساباتنا المصرفية، وأدق تفاصيلنا الحياتية. وظهرت علينا مؤخرا ظواهر اجرامية جديدة أجدرها بالذكر المتعلقة بعصابات بكوادر تقنية متقدمة، تخصصت في تعطيل المؤسسسات الحياتية اليومية مثل الكهرباء والماء، مقابل دفع مبالغ مالية ضخمة، تحول إلى حسابات مصرفية لا يمكن رصدها، باستخدام العملة الالكترونية ( بيتكوين). وبذلك صار الواحد منا محاصرا من كل جانب بأجهزة الدولة الأمنية وبالمجرمين. ولا نجاة من الاثنين.

وعلى مستوى العلاقات الشخصية، تحول العالم الواقعي الذي كنا نعيش في تفاصيله إلى عالم افتراضي، نعيشه من خلال الشاشات. وتحولنا إلى ما يشبه كائنات تكنولوجية افتراضية، تعيش في عالم افتراضي، ومع أصدقاء افتراضيين.

الكائن التكنولوجي، الذي أوجدته التقنية الحديثة، غريب، ومعقد، وأناني، وشديد العدوانية، والاسوأ من ذلك أنه يعيش في فقاعة هوائية، معزولاً عمن حوله من البشر. هللويا

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …