منصة الصباح

أخيراً…تشارلز ملكاً

أخيراً…تشارلز ملكاً

زايد…ناقص

جمعة بوكليب

عام وشهران  مروا، ولم تنته الحرب الأوكرانية – الروسية بعد. ويتواصل سقوط الضحايا من الجانبين، ويتحولون من بشر من لحم ودم وأحلام إلى أرقام في احصائيات، كما وصفهم، ذات زمن، الرفيق جوزيف ستالين. وهانحن نشهد اندلاع حرب أخرى، في منتصف ابريل الماضي في السودان. المئات قتلوا وآلالاف شردوا، ولا علامة أو اشارة تؤكد على توقفها قريباً. حرب وكلاء أخرى تشتعل إلى جانب حروب وكلاء مشتعلة في منطقتنا، منذ عقد من الزمن وأكثر. وفي وسط هذا الخضم يأتي حفل تتويج ملك بريطانيا العجوز تشارلز الثالث، فلا تدري هل تفرح أم تحزن؟ وتحتار هل تصنف الحدث تحت خانة الأخبار العادية أم الاستثنائية؟

لم يعد الملوكُ ممثلو الله وظله على الأرض. مضى ذلك الزمن. لكن الملوكَ بقوا معنا. ملكٌ هنا وآخرُ هناك، يلوحون بأيديهم الناعمة محيين السواح المتجمعين تحت شرفات قصورهم الفخمة، ويظهرون في وسائل الاعلام وهم يبتسمون كاشفين عن أسنان ناصعة البياض، مكرسة لاخفاء سواد القلوب. لكنهم جميعاً، حسب مقياس ريختر السياسي، خارج نطاق شبكات الرادار المحلية والدولية. ولا يختلفون في كثير الأحوال عن  ثقل حمل اضافي فوق ظهر جواد. والجواد لحسن الحظ مازال قادراً على مواصلة المسير بكل أحماله، ولم تبدر منه شكوى واحدة. الراكبون فوق ظهره، من مختلف الملل والنحل، لا يتوقفون على التدافع والتضارب والشكوى.

الملك العجوز تشارلز الثالث انتظر لحظة التتويج 74 عاماً، أي منذ يوم مولده. ولسوء حظه تأخرت قليلاً، لأن أمه الملكة اليزابيث الثانية ظلت حيّة، جالسة على العرش، أطول فترة في سجل ملوك البلاد. وسجلت بذلك رقما قياسياً. تشارلز الذي صار يُعرف بالملك تشارلز الثالث، وكان سابقاً يُعرف بلقب ولي العهد أمير ويلز، دخل هو الآخر سجل الأرقام القياسية مضطراً وكارهاً، وصار أطول ولاة العهد زمناً في حمل لقب ولي العهد. لم يوجد قبله من حمل اللقب، وظل ينتظر في الهامش مدة 74 عاماً. لكنه ظفر أخيراً بما وُلد لأجله: أن يكون ملك بريطانيا العظمى. وأن يضع فوق رأسه تاج أسلافه من الملوك، ويتوّج ملكاً، على مرأى ومسمع من العالم، في قاعة كاتدرائية ويستمنستر التاريخية، حيث سيدفن بعد سنوات إلى جوار أمّه الملكة، وبقية القائمة الطويلة. في تلك القاعة التاريخية، في تلك الكنيسة المميزة، يتوّج الملوك ويدفنون. مفارقة أخرى من مفارقات الزمن.

الزمنُ، ذلك الجواد المذكور أعلاه، يواصل السير مُحمّلا بأثقال عديدة، وبأحزان وبأحلام وطموحات، ومن حين لآخر يتخلص من بعض أحماله، ليفسح المجال أمام أحمال أخرى توضع فوق ظهره، من دون تبرم أو شكوى. الذين يعتلون ظهره يظنّون أنّهم مالكو قياده، ويوجّهونه إلى حيث يشاءون. أو بالأصحّ أنهم، منذ قديم الزمن، كانوا يتمنّون ذلك. والملك تشارلز الثالث قد لا يختلف عنهم. فهو وإن وُلد ليكون ملكاً، وظل منتظراً تتويجه عقوداً زمنية طويلة، انقلب فيها العالم وتغيّر مرّات عديدة، إلا أنّه لم ينج من مكر الزمن، ونال من ضرباته ما ينال غيره من البشر العاديين. المُلكُ والتاجُ والصولجان والمجدُ لا تحول بين الملوك والحزن. والتاريخ يؤكد أن تشارلز ذاق مرارة الحزن، وحُرم من الحبّ، وعاش مقيّداً بحبال مستقبله الملكي، لا يتحرك نأمة إلا بإذن. ورغماً عن كل ذلك، يأتينا أخيراً خبر تتويجه ملكاً، ويتأكد لدينا صحة المثل القائل: من صبر نال. لذلك، لا بأس من شيء من فرح، حتى وإن اعادتنا مراسم التتويج إلى الوراء مئات السنين.

شاهد أيضاً

يعطي بنته ويزيد عصيدة

جمعة بوكليب زايد ناقص لم يكن في حسباني، يوماً ما، أنني سأتحوّل إلى كاتب مقالة …