منصة الصباح

تجربة طريفة في فنّ التّراسل

محمد الهادي الجزيري

وجدتُ نفسي شبهَ مُورَّط في فنّ التّراسل، على الرّغم من عدمِ ميلي إلى الانفتاح على الآخر خاصّة إذا كان شخصًا ليسَ قريبًا جدًّا… لكنّه ودودٌ طبعًا ومثقّف ويعرف من أين تُؤكل الكتف. ففي فنّ التّراسل في عصرنا الحديث عدّة نماذج، منها رسائل جبران خليل جبران إلي ميّ زيادة، ورسائل الأديب الرّاحل غسّان كنفاني إلى الأديبة غادة السمّان… ورسائل الرّاحل محمود درويش إلى الرّاحل سميح القاسم والأمثلة كثيرة….

المهمّ عندي هو أن أقدّم لكم تجربتي أو بداياتها مع صحفيّة وكاتبة تونسيّة نجحت في اقتحام عزلتي، وحرّضتني على الكتابة والبوح بما أشعر به رغم تعلّلي بالمرض (خمسة سنين أصارع الجلطة الدماغية )، خلاصة الأمر… أرجو أن تروقكم هذه الفكرة… خاصّة حين تنظرون إليها من زاويةِ كهلٍ مثلي، يتألّم لما يحدث في العالم من حرائق…

أقدّم لكم ردّي الرّابع على رسالتها :
“ها أنا في اللّيل… أحدّق في بياض الورقة… وأهمّ بالكتابة… مُفكّرًا فيك… وفي اعتذاري هذا الصّباح عن التّفاعل معك… مُتعلّلًا بالمرض… لقد اكتشفت بُخلي في الكلمات في رسائلي الأولى… وهذا صحيح… لكنّي هذا الصّباح شعرت بوعكةٍ صحيّةٍ انتابت يدي اليُمنى… فلم أرد المرور إلى الكتابة… خاصّة وأنّي أستعملُ يديّ الاثنتين منذ تعلمت الكتابة على الجهاز الكبير… فلم أشأ أن أكتب إلّا بها… وها إنّي في هَدْأَة اللّيل أكتب بها… وأردّ على رسالتك…

أوّل شيء شدّني في رسالتك الرّابعة… واكتشافك لعُزوفي عن التّماهي معك… فقط كنتُ أُحاول مُجاملتك… لأنّك سيّدة مثقّفة ومحترمة… أمّا دواخلي فلا يعلم بها أحد… فأنا مريضٌ… ومتألّمٌ لما يحدث في وطني العظيم… ثمّة أشياء أخرى قد أتطرّق إليها في حديثي… فالآن… وبعد اكتشافك لسرّي… أعلن أنّي جاهز للتّفاعل معك… لأنّك تدركين معنى الكتابة…

أمّا الأمر الثّاني الّذي شدّني… فصراعك مع ذاتك… وأمومتك وعاطفة دفينة فيك… وقرارك تلبية دعوة الشّاعرة راضية الشهايبي… رغم انشطارك:
نصف فرح بالذّهاب إلى الشّعر ونصف ظلّ في مكانه… يُظلّل أطفالك ويعتني بهم…
والله لقد عدتِ بي إلى سنة 1997. إنّه تاريخ الرحلة البريّة إلى العراق… لقد خضتُ هذه الرّحلة ظنًّا منّي أنّي قادر على منع المصير الّذي وقع فيه العراق… على كلٍّ، حين تركنا ليبيا أوّل محطّتنا في الرّحلة… وصلنا مصر وامتطينا القطار الذّاهب من الإسكندرية إلى القاهرة، كُنت برفقة شمس الدّين العوني، إياد الدّهماني وعادل المعيزي. وكان الفجر يطلّ عليّ من نافذة القطار كأجمل ما يكون. كنت متعبًا وبي حنين إلى أهلي… فجأةً حلّق طائر في اتّجاه معاكس للقطار… أي أنّه كان يطير نحو تونس… فقلت له خذني معك يا طائر… إنّني تائق لزوجتي وطفليّ وأمي… (لم يكن خالد… موجودًا.. فهو ذخري ودليلي). ذكرتُ تلك الحادثة بحديثكِ عن صراعك وتململك… قبل اتّخاذ القرار… كما لا يفوتني أن أُهديكِ قصيدةً كتبتها سابقًا… ذكرت فيها ما يحصل كلّما عدت إلى البيت…
صرّح الباب: عاد المحارب ليستسلم للأهل
هتف الطفل الأصغر: وصل مُوزّع الحلوى
وتسلّق البدلة مستعينًا بربطة العنق
أمّا الأكبر فغمغم: أريد قسطي من غنيمة اليوم
وأخفى خلف ظهره علبة كبريت ورغبات مشابهة
أسرّت الزوجة لمرآة الرواق:
صدقتِ، أنا أجمل الممرّضات
قد يعرض الشاعر جراحه لنساء المدينة
لكنّه لا يبيت إلاّ في ضمادي
ها إنّه يبذّر ذاته على فراخي
ويتفقّدني بعينيه كمن يتحسّس دفتر ادّخاره
همهمت الأمّ: هادنوا القتيل قليلا
تذمّر السرير : إلى متى ستخطئ هذه الجثّة قبرها؟

سيكون إعجابي بتعبيرك.. ثالث تدخّل لي خلال ردّي: ” في حضرة الشعر تغلّبنا على عقدة الفيروس الصّامت… أغمضنا أعين الموت… أطبقنا فمه الواسع…”

حقيقة قلت عن الموت ما يستحقّه… هذا الدعيّ… مُهدّم الذّوات ومفرّق الجماعات… إنّي أعدك أن أشفى لكي أُواصل هجائي له…
أستودعك الله…

أرأيتِ ماذا فعلتِ في كهلٍ مُشرفٍ على الشّيخوخة… كهل مريض… وعلله كثيرة… كهل لا يريد الكلام ولا الأصحاب… يريد فقط أن يغفو لينسى…
يُفكّر في بلاده كيف صارت وحبيبته كيف أصبحت جدّة… وينسى أصدقاء مرّوا واندسّوا عميقًا في التُّراب والذّاكرة …
لكنّك أجبرته على الجلوس إلى مكتبه واستعمال يده اليمني كي يكتب ما كتب… لعلّك الآن نائمة وستنهضين باكرًا على هرج فراخك… دمت لهم وداموا في وطني الّذي أراه رغم الغبار.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …