منصة الصباح

بِيكَحَلْهَا … عَمَاهَا

الدكتور علي عاشور

بينما كنت في عيادة صديقي بمنزله الواقع في أطراف مدينة طرابلس، سمعنا صوت شجار في الخارج ، فطلب مني استكشاف الأمر؛ لأنه لا يقوى على الحركة، خرجت لأرى، فإذا بجيرانه يتناقشون بصوت عال، تقدمت نحوهم، متسائلاً بعد أن ألقيت تحية السلام: لا باس؟ شنو صاير يا حجاج؟ رد عليا شيخ كبير وهو يشير بكلتا يديه إلى الأرض: شوف تحتك، هذا جارنا ديما ينظف في سيارته في الطريق ويخلي فيها حالة كيف ما تشوف… ولما ناقشته قالي: تو يجوا جماعة البلدية ينظفوا…. وحلفت له لو ما ينظف الشارع حنشكي فيه.

نظرت إلى جاره المقصود، وطلبت منه تنظيف ما قام به، مستشهداً بالأحاديث النبوية الحاثة على اماطة الأذى عن الطريق، وعدم إيذاء الجار والاحسان إليه………. إلخ، بل وقلت له: لو تحتاج مساعدة أنا أساعدك، وبدأت فعلاً -وأمام الجميع- في جمع بعض الأوراق والعلب من الأرض، عندها تقدم نحوي وطلب مني التوقف، متعهداً أنه سيقوم بتنظيفه الآن هو وأولاده.

اعتذر صاحبنا مني ومن جاره الشيخ، ومن بقية من حضر، عندها فقط تعارفنا… ودخلنا جميعاً إلى صديقي المريض… وبقى هو وأطفاله ينظفون الشارع… بيد أنه لم تمر ربع ساعة من دخولنا حتى دخل علينا دخان كثيف من النافذة المطلة على الشارع، وإذا بصاحبنا قد جمع كومة من القمامة على قارعة الطريق وأضرم النار فيها….

لك أن تتخيل، قنينات ماء بلاستيكية فارغة، ومناديل ورقية مستخدمة، والكثير من ورق الكرتون، مع أوراق للشجر وأغصانه التي ساعدت في عملية الاشتعال وزادت من كثافة الدخان.

خرج الشيخ مسرعاً دون أن يرتدي حذاءه ماسكاً عكازه بيده اليسرى، وهو يقول: بيكحلها… عماها، بيكحلها عماها…. خرجنا نتيع الشيخ الذي استشاط غضباً من جاره، استقبلنا الرجل باعتذار أنه كان عليه أن يخبرنا بأن نقفل النافذة قبل أن يشعل النار، وأنه لم ينتبه إلى أن الرياح تتجه اتجاهنا….. وأثناء نقاشنا -إن صح القول جدالنا- مع صاحبنا نلومه ونوبخه على التفكير في إشعال النار في حي سكني في هذا الجو الحار، وإذا بسيارة تتوقف بجانبنا، نزل منها شخص لم يبقي الشيب في شعره سواداً رغم كثافته، عرف بنفسه بأنه يسكن غير بعيد، وما آتى به إلى هنا إلا دخان هذه النار، التي حُرم بسببها بأن تبيت والدته الطاعنة في السن ليلتها في منزله بينه وبين أطفاله… إذ أنها تعاني من مشاكل في الجهاز التنفسي وضيق في التنفس، وما أن وصلت منزلي قادمة من وسط المدينة حتى لحقها دخان ناركم هذه التي أفسدت علينا كل شيء… فطلبت من أخي ارجاعها إلى منزلها فوراً…. تكلم الرجل بكل أدب وحُرقة عن ثقافة الليبيين فيما يتعلق بالإصحاح البيئي الذي يعني كل تلك التدابير الفنية والاجتماعية والاقتصادية التي تهدف إلى تجنب أو التخفيف من الآثار السلبية الناتجة عن النشاط البشر في البيئة بشكل عام.

تكلم طويلاً (دون أن يقاطعه منا أحد) عن الاصحاح البيئي، ولم يتوقف حتى سمعنا المؤذن ينادي لصلاة المغرب مردداً: الله أكبر…الله أكبر.. عندها اعتذر … وركب سيارته وغادر….

هذه الأمسية أيقنت فيها أننا بحاجة ماسة إلى حملات إعلامية توعوية طويلة وكثيفة ومستمرة لنشر ثقافة الوعي البيئي.

شاهد أيضاً

يعطي بنته ويزيد عصيدة

جمعة بوكليب زايد ناقص لم يكن في حسباني، يوماً ما، أنني سأتحوّل إلى كاتب مقالة …