منصة الصباح

بيوت الموت

بقلم / محمد البشري

النتائج عادة ما تكون مبنية على معطيات, والمعطيات القوية دائما ما تعطيك نتائج أقوى ثم أن مخرجات الأمور ننظر فيها إلى مدخلاتها دائما فمنذ سنوات ونحن نستيقظ على أخبار أطباء ليبيا خارج الوطن. فلان تحصل على أفضل طبيب في هذا العام. فلان كرم من قبل شخصية مرموقة أو مسؤول رفيع المستوى. فلان تحصل على جائزة طبية كبرى. فلان صنف ضمن الأرقام الصعبة في بلاد ما.. هذه المخرجات توحي لنا بمعطيات رائعة عن التعليم في بلادنا وعن شغف أبنائنا ومدى جدهم واجتهادهم، ولكنني الآن سأذهب بكم إلى مخرجات من نوع آخر كان لابد لها أن تضاهي الأولى من ناحية العطاء أو المستوى أو الجودة. أنا أتحدث عن مستشفيات ليبيا التي كان من المفترض أنها تقدم أفضل الخدمات، لأنها تملك أو كانت تملك أمهر الأطباء في العالم، ولكن تبدو هذه المعادلة معقدة لأنها ترتبط بمدخلات أخرى كنت قد كلفت من قبل المعهد الليبي للاعلام والصحافة بإجراء تقرير مسموع، وقد اخترت إجراء تحقيق صحفي عن الصحة في ليبيا، من خلال عمل مشافيها. وكانت وجهتي مستشفى الزاوية التعليمي كأقرب مشفى في محيطي الجغرافي، انطلقت حاملا حقيبتي وحاملا معي عدة تساؤلات. كنت قد بدأت من مكتب المدير للحصول على موافقة بإجراء التقرير، فقد كشفت تصريحي الأمني للسماح بذلك، وبعد أن وافق المدير، انطلقت وبصحبتي موظف إداري ليساعدني في جولتي، دخلت أروقة المستشفى، بدأنا المشوار من العيادات الخارجية، وما ان بدأنا والكل يحدق بي ويحدثني بلغة عيونه التي تكلمت كثيرا، ولكن الألسنة لم تتفوه بكلمة، وهنا أتحدث عن كثير من المواطنين المتواجدين بمجمع عيادات المستشفى. التقيت بطبيب إخصائي، وطرحت عليه تساؤلات بسيطة بالبداية. سؤالا عن طبيعة عمله وهل هو مرتاح فيه؟.. فأجاب أنه يعمل يوم في الاسبوع، متابعا لحالات المرضى التي تحتاج للكشف أو المراجعة، ومن ثم حدثني عن المستشفى بأنه قد استهلك، وأصبح مبنى متهالك!. بدت لي إجابة مهندس معماري من طبيب يتهرب من الحديث عن الوضع الأسوء، واصلت طرح الأسئلة، وهنا أجابني عن الأدوية والعتاد الطبي، قائلا: أن المواطن مشكور يوفر احتياجاته من الأدوية والمستلزمات الطبية الأولية لإسعافه وعلاجه.

خرجت من غرفة هذا الطبيب إلى ممرات المبنى باحثا عن مريض يجيبني عن تساؤلات أخرى، أو ممرض يحدثني عن الوضع بشكل أدق، لأن الأطقم المساعدة -بطبيعة الحال- تتواجد أكثر من هذا الإخصائي في عدد أيام الأسبوع، ولكني لم أجد سوى نظرات مليئة بالحيرة والغموض، أو ربما الخشية. نعم الخشية من الإداري الذي كان برفقتي، فطلبت منه أن يعود لمكتبه وأن أكمل مشواري لوحدي، لأنني بهكذا طريقة لن أحصل على كثير من الأجوبة، وإن حصلت لن تكون هي الأجوبة الحقيقية. وافق الإداري على العودة لمكتبه، ثم وصلت إلى قسم حسّاس ومهم، وهو قسم الاسعاف والطواريء، والذي تحدث فيه المشرف العام بمرارة. حيث تبين لي من حديثه أنه كانت هناك حادثة قبل عشرة أيام تعرض فيها القسم لهجوم مسلح، لهذا أخذ يشجع الأطباء المرعوبين من الحديث للإعلام عن تجاربهم التي يبدو أنها كانت مريرة وقريبة من الموت، حيث أوضح المشرف لي بأن القسم يعاني في ساعات الليل المتأخرة من المخمورين والمسلحين الذين يحضرون رفاقهم المصابين، طالبين إنقاذهم، حتى وإن وصلوا المشفى في حالة يرثى لها، وفي طريقهم الحتمي للموت، وطلبهم كثيرا ما يكون تحت تهديد السلاح، وأحيانا أخرى يكون القتل داخل المستشفى، حيث ينهي القاتل عمله الذي لم ينهيه خارج المشفى. هذا الوضع المأساوي والرهبة التي يعيشها الأطباء في الحديث لي، توضح مدى سوء تجاربهم مع هكذا مواقف؛ في حقيقة الأمر عجزت بعدها عن وصف الحال، ولم تسعفني الثماني والعشرين حرفا من اللغة العربية للحديث عن الموضوع، لأنه شعور سيء للغاية أن تشعر بالخذلان تجاه مرضاك، وأنك غير قادر على إنقاذهم أو حتى حمايتهم، وهو ما تأصل بشخصية الطبيب طيلة سنوات دراسته المتعبة.

خرجت لأقسام أخرى بالمشفى، برفقة مشرف الطواريء الذي بدأ في أعين الأطباء أكثر ثقة في تعاملهم معه، وفي تجاوبهم معي، ولكنني اصطدمت على ما يبدو لي بمن لا يحبذ الحديث إلى وسائل الاعلام، فرفض رئيس أحد الأقسام السماح لي بالتسجل داخل قسمه، حتى بعد أن اشهرت له تصريحي الأمني، فأجاب بتهكم:

– إنها أسرار المشفى، ولا يجب الاطلاع عليها.

ثم طلب مني المغادرة وهو يبتسم ابتسامة عريضة، ولم يكن حظي أفضل بكثير عندما قابلت بعض الأطباء الاخصائيين الذين طردونا، إما من مكاتبهم أو من قاعات محاضراتهم بالمشفى، فرفض الجميع الحديث معي.

تابعت سيري ولم أستسلم في الحصول على أجوبة لما يدور بذهني إلى أن تحسن حظي بمقابلتي مسؤول الصيانة في أحد الممرات، بعد أن أخبرني عنه مشرف الطوارئ الذي يرافقني، فسألته عن المبنى المتهالك، وماذا فعل مكتب الصيانة في هذا الأمر؟.

فأجاب.. بأن الميزانية لم ترصد لهم منذ فترة طويلة بعد جملة تعاقدات مع شركات أجنبية غادرت البلاد للأسف الشديد.

في حقيقة الأمر شعرت بإحباط كبير لما سمعته، ولما شاهدته من وضع مأساوي. بعد ذلك وجدت نفسي تحت أنظار الكثيرين، خاصة أنني كنت أحمل جهاز التسجيل من لقاء لآخر، وهنا أردت اتباع التحوّطات الأمنية، لأن المشفى لا يملك أي جهة أمنية تحميه، فاخترت عدة مسالك للوصول لوجهتي القادمة. مكتب المدير الذي أردت أن أختم معه جولتي التي انطلقت فيها من مكتبه، ذهبت وأنا محبط من وضع مأساوي يبدو أنه يمتلك بداية ولا يمتلك نهاية، في مسلسل درامي مرعب، وفي صفحة كتاب باهتة لا تطوى، وفي حلكة ليل لا تنجلي.

لفت انتباهي أثناء توجهي لمكتب مدير المشفى مغادرة بعض الأطقم الطبية المساعدة، فتحدثت لطبيبة مستجدة عن الأمر، فأجابت ‘‘أن المؤن الطبية الاساسية لانقاذ أرواح البشر لا تتوفر في الطواري، وأن الأطباء أيضا يتهيئون للمغادرة قبل انتهاء ساعات دوامهم، لأنهم يشعرون بالأسى لعدم قدرتهم على فعل شيء حيال المرضى والمصابين’’. وأضافت.. ‘‘أن الأطباء مع كل ما تعرضوا له جراء قله الأمن، إلا أنهم لا زالوا يتواجدون لأداء عملهم’’.

في عموم الامر أخيرا، وصلت لمكتب المدير مرهق الكاهل لما رأيت، ومحبط من عدم تمكني من الحصول على حديث ولو قصير مع المواطنين، ربما خطورة الوضع الأمني – في تلك الفترة- كانت السبب المقنع للأمر. عموما في مكتب مدير مستشفى الزاوية التعليمي ركزت معظم ما يدور في ذهني على أمرين اثنين، الأمن والامكانيات، وهما الأساس لحل معظلة المشفى، فأردت أن أضع الكرة بملعب المدير -كما يقولون- فبدأت بسؤالي: – كيف حال المستشفى يا دكتور؟

– بخير..

– أين رجال الأمن في هذا المكان؟.

– تواصلت مع الجهات الأمنية بالمدينة ولكن دون جدوى…

– لماذا دون جدوى، حياة أطبائك وموظفيك في خطر يومي، فماذا فعلت لأجلهم، هل توقفت عن توفير الأمن لهم؟.

هنا أوقف التسجيل بعد أن قال الله أعلم، وأجاب بعدها بأنه حال البلاد فماذا أجيب.

عموما أجابته لم تكن مقنعة لمسؤل في نظري استسلم وانهزم في المحاربة لأجل مشفاه وحماية موضفيه وأطبائه ومرضاه.

تمنيت له التوفيق وخرجت من المشفى حاملا تساؤلات أكبر مِنَ التي أتيت بها معي للمستشفى:

– هل الوضع الحالي هو تقصير مسؤول أم يأسه من محاولة الإصلاح؟ أم أننا نعاني من إدارة سيئة للأمور حتى من قبل طبيب؟ هل يدرس طالب الطب سنوات عجاف ليجد نفسه في هذا الحال؟ هل تبقى بلادنا مصدر تصدير طاقاتها الشابه للعمل والتميز خارج حدود الوطن ولا يستفاد منهم هنا؟ إلى متى هذا الحال؟

طبيبنا يبدع خارج الحدود ومواطن يعاني رفقة طبيبه الموت داخل هذه البيوت, بيوت شيدت لتنقذهم من الموت واليوم هي أقصر طريق إلى ثلاجة الموتى في وطن يحتضر من أثر طعنات أبنائه

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …