منصة الصباح

بعضٌ مما يحدث لي

جمعة بوكليب
زايد…ناقص

حين وصلتُ، على قدمين متعبيتن، إلى جهتي المقصودة من المدينة، منتوياً زيارة صديق لي، استضافني على وجبة غذاء في بيته، في نهار صيفي قائظ، تشابهت عليَّ البيوتُ، وداهمني ارتباكٌ وحيرةٌ وقلق. وتبيّن لي أن صديقي الذي يجلس في بيته منتظراً أن أطرق بابه، في أي لحظة، مُعلناً وصولي، لن يعرف، حينذاك، وهو مستلق على أريكة، مستمتعاً ببرودة جهاز التكييف، وفي مأمن من القيظ، أنني كنتُ ضائعاً في تلك الجهة من المدينة، باحثاً عن موقع بيته، وسط غابة من بيوت بدت لي متشابهة.
كنتُ، منذ عام مضى أو أكثر، قد زرته ضيفاً عليه في بيته للمرّة الأولى. وبدا لي أن لا شيء تغير في تلك الجهة، التي يقطن بها. ووجدتها كما عهدتها منذ زيارتي الأولى. لكنّي أضعت البيت المنشود. فهل أطرق البيوتَ، واحداً تلو آخر، كمتسول، أم أقف منتظراً حتى يمرّ بي عابرُ سبيل يعرف الجهة، قد يدلني على بغيّتي؟
الغريبُ، أن هاتفي المحمول لفظ أنفاسه قبل لحظات من وصولي إلى المكان. انتظاري لم يدم طويلاً. شبابٌ في سن المراهقة، أقتربوا ناحيتي، وهم سائرون في طريقهم. أوقفتهم باشارة من يدي، وتقدمت نحوهم محيياً، ثم سألتهم عن بيت صديقي. لدى تأكدي من عدم معرفتهم له بالاسم، وصفته لهم طولاً وعرضاً. وصفت نظارته. لحيته. تسريحة شعره، نوع سجائره التي يحب تدخينها، ضحكته. طريقة مشيه. لكنهم جميعاً أنكروا معرفتهم به. أحدهم سألني عن أولاده. وصفتُ لهم ولدين منهم. لكنهم لم يتعرفوا عليهما كذلك. سألني أحدهم عن نوع ماركة سيارة صديقي. أجبتهم بأنه لا يملك سيارة، لكن ابنه الأكبر لديه سيارة نوع داتسون 120 رصاصية اللون. ضحكوا جميعهم ضحكاً هستيرياً أغضبني. وأبلغوني أن السيارات من نوع داتسون 120 اندثرت منذ سنين.
قبل تلك الحادثة ، حدث ما هو أسوأ. أذكر أنني عزمت مرّة على الذهاب بالسيارة لحضور حفل غنائي صباحي. وكان الوقت شتاء. واختار منظمو الحفل حقلاً مهجوراً، ليكون موقفاً لسيارات الزائرين. ركنت سيارتي في جهة منه، وذهبت إلى الحفل. بعد مرور ساعة قررت المغادرة حتى لا أغرق في الزحام. وما حدث بعد ذلك هو أنني نسيت المكان الذي ركنت فيه سيارتي. ظللت أجوب ذلك الحقل الكبير باحثا عنها بلا جدوى. وحين تعبت ألتجأت إلى شابين كان يحرسان الموقف، وسألتهما المساعدة. سألني أحدهما عن نوع ماركة سيارتي، فأصبتُ بالبكم. والسبب أنني نسيت نوع ماركة سيارتي. ثم قلت باستحياء أنني نسيت الاسم، لكني أحفظ رقم لوحتها المسجلة. كتب احدهم الرقم في ورقة وأنصرفا معاً. بعد قرابة ربع ساعة تقريباً، عادا وأبلغاني بموقع سيارتي. فشكرتهما.
أعتقد أن موقفا كهذا، وما نالني فيه من إحراج، كفيل بأن يجعلني لا أنسى ما حييت اسم ماركة أي سيارة أقودها. وما لم يكن في حسباني، هو أنني، في يوم ما مستقبلاً ، سوف أسئل، ذات يوم قائظ الحرارة، من قبل شباب مراهقين، لم يعرفوا بعد “كوعهم من بوعهم”، ليس عن نوع ماركة سيارتي ، بل عن نوع ماركة سيارة ابن صديق لي، يقيم في جهة ما، من مدينة هجرتها منذ سنين مضت، وتشابهت عليَّ بيوتها!

ومازلت إلى يومنا هذا لم استوعب ضحكهم الهستيري، إذ ما النفع الذي من الممكن أن أجنيه شخصيا لو أنني عرفت ماركات كل سيارات العالم؟ والأهم من ذلك، ما الضرر الذي يلحق بالآخرين إذا جهلتها أو تجاهلتها؟

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …