منصة الصباح

بعضٌ مما يحدثُ لي-2

زايد…ناقص

  جمعة بوكليب

 

أحياناً، يكونُ المرءُ منّا في  حاجة إلى ريح قوية تهزُّه، ليفيقَ من غفوة. و في حالتي، تمثلت غفوتي في إنكاري حقيقة أنني لم أعُد شّاباً. فقدانُ العلاقةِ بمرحلة الشباب يتطلبُ ضرورةً العمل على  بناء علاقة مع المرحلة التي تليه مباشرة.  تلك المرحلةُ، البعضُ منّا يُسميها مرحلة الكهولة. ويفضل البعض الآخر اضفاء شيء من مهابةٍ عليها، فيسميها مرحلة الشيخوخة. وهي مرحلةٌ بأبحديةِ لغةٍ معروفة وواضحة. لكنّ الكهولَ، من أمثالي، بعناد واضح، ينكرونَ وجود تلك المرحلة العُمرية أصلاً، فما بالك اعترافهم بوجود لغة خاصة بها!!

هذه المقدمةُ مهمةٌ، قبل سردي حكاية الريح التي عصفتْ، وهزّتني مؤخراً، وأرجعتني من عالم الخيال إلى عالم الواقع.  عالم الواقع بليد. ولا يتوقع منه حياة  تضخ في عروق المرء بنفحات الحبّ، ونسائم الرضا، وشموع الطموح. ربما يقول البعض أنني أرى فقط نصف الكأس الفارغة. وأنا، رغم ما عُرف عنّي من عناد، لا أنكر ذلك.  ربما يرجع الأمرُ لادعائي العِلمَ بمحتويات السائل، الذي يملأ النصف الآخر من  الكأس!

الحكايةُ قصيرةٌ. لكنّها ريحٌ عاصفةٌ وضرورية. البدايةُ كانت لدى وصولي بالقطار القادم من منطقة “ويملبدون” إلى محطة “ايرلز كورت”، في طريقي إلى منطقة “ويست كنزنجتون.” الضرورةُ تحتّم عليَّ عبور جسر إلى الضفة الأخرى من المحطة لا ستقل قطاراً آخر، إلى جهتي المقصودة. كان الوقتُ مساءً بارداً، ساعة الذروة، حيث يشتد الازدحام في كل المواصلات العامة بأنواعها. أنتظرتُ مع غيري حتى وصول القطار. وحين وصل، انتظرتُ حتى أختفى من كانوا قبلي في الطابور داخل العربة، ثم تبعتهم. كنتُ أعلم مسبقاً أن وجود مقعد شاغر في ذلك القطار، في تلك الساعة من المساء، خارج نطاق التفكير والتمنّي معاً. وقفتُ مع الواقفين في عربة مزدحمة. قامت سيدةٌ، لم تبلغ الثلاثين من العمر بعد، من مقعدها، وطلبت منّي تأدباً أن أحلَّ محلّها. المفاجأةُ أبكمتني. لكنّي تماسكتُ، واستعدتُ حضوري، وأعتذرتُ لها شاكراً، وموضحاً أنني سأغادر القطار في المحطة القادمة. فرجعتْ هي إلى الجلوس على المقعد، وواصلت أنا الوقوف. في محطة “ويست كنزنجتون”، توقف القطارُ، وغادرته إلى مقصدي. حكايةٌ بسيطةٌ جداً، وعاديةٌ جداً، وتحدث، كل يوم، في مختلف مدن الدنيا. الغريبُ أنّها المرّة الأولى التي تحدث لي شخصياً، منذ أن حللت لاجئاً بالبرّ الانجليزي. عدم حدوثها سابقاً، راجعٌ إلى أن اللندنيين لا يتنازلون عن مقاعدهم لشيوخ في عمري، إلاّ في حالات نادرة جداً. وهذا، في رأيي، تفسيرٌ كافٍ بالغرض. هناك تفسير آخر، وهو أن المرأة الكريمة، التي عرضت عليَّ مشكورة الجلوس في مقعدها ليست لندنية، وليست من أصول إنجليزية. إذ قد تكون قادمة من مناطق بعيدة، يحظى فيها كبار السنّ بالتوقير والاحترام. أو أنها لاجئة مثلي، وتنتمي إلى ثقافة مختلفة، يتموضع فيها أمثالي، من كبار السنّ، في منزلة اجتماعية، تستوجب الاولوية.

المرّة الأولى التي تنازل لي فيها شابٌ عن مقعده،في مواصلات عامة، كانت منذ سنوات مضت، في مدينة استانبول. المرّة الثانية كانت في عربة من عربات قطار انفاق القاهرة. وأعترفُ أن العرضين الكريمين من الشابين لم يربكاني، كما فعل بي العرض الكريم، الذي قدمته المرأة لي في لندن. وقبولي للعرضين في استانبول والقاهرة بامتنان، ومن دون استغراب، ناجم عن فهمي للثقافة التي ينتمي لها الشابان. لكن هذه المرّة الأخيرة، أيقنتُ أنني، منذ تلك اللحظة وصاعداً، عليَّ بمراجعة نفسي، والبدء في تعلّم أبجدية مرحلة عُمرية، كنتُ، بعناد ليبي متأصل، أنكرها.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …