جمعة بوكليب
زايد…ناقص
زمان، كان بَاعةُ البيضِ يطوفون الشوارعَ والأزقة في المدينة القديمة حاملين قفافًا مصنوعةً من سعف النخيل، مفروشة تبنًا كي لا ينكسر ما بها من بيض. كانوا عديدين. أحدهم كان اسمه شكري. كان يرتدي جَردًا ويحمل قفة سعف مليئة بالبيض، وينادي بأعلى صوت: دحي. كان رجلاً سمحًا دمثًا كثير التدخين، طويل القامة، وابتسامة مرسومة على شفتيه لا تفارقه. كنّا – نحن الصغار- نحبّه، ويعجنبا أن نناديه عمي شكري، لأن لا أحد في شارعنا كان اسمه شكري.
سماؤنا وأسماء أبائنا لم تلمسها رِقة، ولا تحمل نبرات منغّمة موسيقيًا. أسماؤنا كانت انعكاسًا لفظاطة أوضاعنا الإجتماعية وبؤسها. لذلك، كنّا نلتذ بمناداته باسمه حريصين على تنغيم نشاز أصواتنا لتتسق ورقة الاسم: شكري، وطراوة نبرته في الحنجرة والشفتين، ثم رهافة وقعه على الأسماع، وانعكاس ذلك إيجاباً على النفوس.
في تلك الفترة الزمنية البعيدة بدأت علاقتي بالقراءة. من ضمن ما قرأتُ حكمةٌ تقول “لا تضعْ كل بيضك في سلّة واحدة.” وأذكر بعدها أني التقيت عمي شكري، ونصحته بألا يضع بيضه في قُفّة واحدة. ضحك عمي شكري، وسألني عن السبب. أجبته كي لا ينكسر بيضك إذا سقطت منك القفّة على الأرض. هزّ عمي شكري رأسه موافقا أو معجبًا، وقال لي مبتسمًا: عندك حق ياولدي. وواصل سيره في طريقه. الغريب أن عمي شكري ظل حريصًا على حمل كل بيضه في نفس قفّة السعف، وكأنه لم يسمع بتلك النصيحة أو الحكمة. والعجيب أنّه لم يسقط قفة السعف تلك من يده، وتسقط على الأرض وينكسر ما بها من بيض. وأن بقية باعة البيض كانوا مثله. لكني حين كبرتُ قليلاً، واتسعت مداركي شوية، وتعلمت من دروس الحياة عرفتُ أن المقصود بتلك النصيحة ليس البيض الذي تبيضه الدجاجات وكان يبيعه لنا عمي شكري وغيره من الباعة. لكن تلك المعرفة وصلتني متأخرة قليلاً، وإن شئتم الدّقة، بعد خراب مالطا.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية