دفق
بقلم / سعاد الوحيدي
تحتضن برلين هذا الأحد، اذا ما سارت الأمور وفق ما يخطط القدر،”الحدث” الذي من شأنه أن يقود ليبيا باتجاه المعقول من”ممكن الوجود”. هذه المدينة المجبولة ذاتها من وجع، ويأس ودمار، وتمزق. هذه التي قسم ظهرها طيلة سنين جدار “العار”، والتفرقة وانفصام الذات. المدينة التي تربع على شوارعها أبشع طغيان، وجنون لفترة غير قصيرة. هي التي نهضت لترصف الطريق أمام بلادنا للخروج من مأزقها المًعيب. وبمبادرة نسوية بإمتياز، بزعامة أمرأة من حديد، ومع الحكومة الأنثوية الأوسع في تاريخ ألمانيا (تضم الحكومة الاتحادية الحالية أكبر نسبة تمثيل وزاري نسوي شهدته البلد). وقد استطاعت أنجلا ميركل إقناع أطراف الحرب الدائرة على التراب الليبي، تلك التي تشارك من الخارج، والتي تشارك من الداخل. وتلك التي على الأرض، أو التي تضرب من السماء. للقاء عندها، والخوض وجهاً لوجه، أو يداً في يد، في مباحثات تقودها “هي” بأسم العالم، لإنهاء كل هذا العبث.
تفاصيل هذه المعادلة الاستثنائية/ البرلينية، تسمح بشكل مأسوي، بمقارنة تاريخية/سياسية، (تتعلق بأوضاع الأمكنة)، بين العاصمة الألمانية والعاصمة الليبية. وكيف كان للأولى أن تنتصر على دمار الحرب والإنقسام، بجهود نسائها. وكيف يمكن لطرابلس استقراء التاريخ، والقفزعلى الهفوات، وتجنب الوقوع في مزلق التقسيم، وتدمير المدن وموت الانسان. والذي لن يكون ممكناً فيما يبدو، إلا بجهود نسائها أيضاً، وقد أثبت الرجال عجزهم عن الإنخراط في هذا الاتجاه.
كانت برلين “المعجزة”، التي نهضت من رمادها كالعنقاء. قد دفعت الثمن الأغلى لجنون هتلر، ونزقه النازي، الذي جرّ العالم في منتصف القرن الماضي، لجحيم حرب ضارية. كان اكتساحها من قبل الحلفاء قد تم على جثت الناس، وركام المباني. (حيث تم تدمير أكثر من نصف معمار المدينة، قبل إركاعها). وحيث لم يعصف جنود الحلفاء الذين أحتلوا البلاد، بالحجر في برلين فقط، بل هم طالوا الانسان أكثر(ألمانيا التي بادرت بالعدوان، وإحتلال أوروبا، تم احتلالها بدورها بعد هزيمتها عام 1945. وتقاسم الحلفاء أراضيها حتى عام 1949، حينما تأسست ألمانيا الغربية الموالية للمعسكر الغربي، وألمانيا الشرقية الموالية للمعسكر الشرقي). هذا الذي سيكتب على برلين ان تتمزق الى نصفين، وحتى هدم الجدار الفاصل، وإعادة توحيد البلاد عام 1990.
على أن التاريخ للأسف سيسجل خلال فترة الاحتلال هذه، ابشع وأوسع جرائم اغتصاب للنساء في تاريخ الحروب. وكأن الحقد الذي كان يعشعش في صدور الحلفاء تجاه ألمانيا النازية، قد تم تحويله صوب النساء، وجعلوا من جسد المرأة الألمانية ساحة لحروب لم تنته حتى بعد الإنتصار. تؤكد المؤرخة الألمانية مريام غيرهارد في كتابها «عندما أتى الجنود.. »، إن هناك أكثر من نصف مليون رجل وأمرأة في ألمانيا لا يعرفون آباءهم. وأن جنود الاحتلال من كل الجنسيات قد قاموا بهذه الاعتداءات.
هذه الحرب الاخيرة بالذات، وفقدان الرجال في المعارك، (فقدت ألمانيا خلال هذه الحرب ما يقارب التسعة ملايين قتيل بين مدني وعسكري، وذلك غير الأسرى والمصابين)، خلق من المرأة الألمانية كياناً من نار وثورة. وحولها لقوة ضاربة، أدارت ظهرها للحروب والمعارك، وتوجهت لإصلاح ما أنكسر، وترميم ما تهدم. لقد أمست عنفواناً هادراً، عزم على بعث المانيا من رمادها دون تأخير. حيث شهدت برلين إنطلاقة حراك نسوي تاريخي، (قادته الاشتراكية لويزا شرودر، والتي تعرضت ذاتها، كما تروي في مذكراتها، لابشع صور الإغتصاب على يد جنود الاحتلال)، عُرف بحراك “نساء الأنقاض”. وكانت الفلسفة التي استند إليها برنامج العمل، هي مجابهة الدمار بروح الإعمار، والبحث بين الركام عن الأحجار التي يمكن توظيفها للبناء….، بحيث تمكنت “نساء الأنقاض” خلال فترة لم تتجاوز تسعة أشهر، وبأدوات بسيطة، من معالجة أنقاض ملايين المباني، وتحويل مئات الآلاف من إطنان التراب لهضاب حول المدن، أصبحت فيما بعد حدائق جبلية بديعة. (الزائر لبرلين اليوم سيرى في تلك الحدائق الجبلية الرائعة التنسيق على مشارف المدينة، جمال هذا العزف الأنثوي على أوتار الأمل).
لذا نختم: ماذا لو ترك الألمان أمر البلاد منذ البداية للنساء، وماذا لو يترك الليبيون، ووفودهم الذكورية الكئيبة التي ما انفكت تجوب العالم دون جدوى، أمر ليبيا لنسائها… سؤال، وسؤال… يجد كلاهما إجابته في قلب التاريخ.