باختصار
د. علي عاشور
في الغالب لن يناقشني أحد إذا قلت: أن الإعلام أصبح رفيق الإنسان الدائم دون منازع أو منافس، وأننا نتغذى يومياً على وجبات دسمة ومتتالية من الأخبار والمعلومات، وأنه لا يمكننا العيش بدونه في العصر الحديث، الأمر الذي جعل من هذه الأخيرة جزءًا لا يتجزأ من وعينا وتشكيل رؤيتنا للحياة.
فالهاتف النقال مثلاً، هذه القطعة الصغيرة الأنيقة، هو أول ما تطاله أيدينا وتناظره أعيننا صباحاً، وآخر ما نودعه قبل النوم، ولا ريب إن قلنا أنه نافذتنا الدائمة التي نرى بها العالم الخارجي، إذ لم يعد الهاتف المحمول مجرد وسيلة للاتصال فحسب، بل تحول إلى بوابة مفتوحة على مصراعيها للمعرفة والترفيه وللعمل أيضاً، إنه الجهاز الذي نحمله أينما ذهبنا، نشعر بقلق فقدانه أكثر من فقدان أي شيء آخر، فقد صار امتداداً لحياتنا اليومية، يسجل لحظاتنا ويوثق تجاربنا، حتى بات جزءاً من ذاكرتنا الشخصية والجماعية.
لقد تغيرت عاداتنا بشكل جذري مع تطور وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، ولم يعد بالإمكان تجاهل هذا التحول العميق. في الماضي القريب، كان الإنسان يعتمد على الصحف الورقية والراديو للحصول على الأخبار، ثم جاء التفزيون ليشكل ثورة بصرية في عالم الإعلام، أما في العصر الحديث، فقد تحول الهاتف المحمول إلى شاشة متعددة الوظائف تنقل لنا كل شيء، من الأحداث السياسية إلى تفاصيل الحياة اليومية لأشخاص لا نعرفهم، ناهيك عن الوظائف الإعلامية التي برع في تقديمها بكل مهارة ونجاح.
لم يعد الإعلام في عصر الهواتف الذكية مجرد وسيلة للاطلاع والمعرفة، بل تحول إلى شريك يومي يسهم في تشكيل تفاصيل حياتنا وتوجيه أفكارنا، فهو حاضر في كل لحظة، يرافقنا في العمل والمنزل وحتى خلال أوقات التنزه والراحة.
الإعلام بواسطة الهاتف المحمول يتجاوز دوره التقليدي، ليصبح مؤثراً في قراراتنا وخياراتنا بشكل أسرع مما كان عليه، وصانعا للرأي العام الذي يشكل اتجاهات المجتمع بأكمله.
لكن هذه العلاقة الحميمة مع الهاتف النقال لا تخلو من التناقض، فمن جهة، وفرت لنا هذه الأجهزة قدراً كبيراً من الراحة والسرعة في التواصل مع الآخرين ومعرفة المستجدات لحظة وقوعها، ومن جهة أخرى، أصبحنا أسرى لها بطريقة يصعب الفكاك منها.
يمكن للإنسان أن ينسى محفظته أو مفتاح سيارته أو منزله، لكنه لا ينسى هاتفه النقال، هذه الحقيقة البسيطة تلخص مدى التداخل بين الإنسان ووسيلة الإعلام الصغيرة، لدرجة أن غياب الهاتف عن متناول اليد يشعرنا بالفراغ والقلق، وكأننا فقدنا شيئاً من ذواتنا.
الهاتف المحمول اليوم ليس مجرد وسيلة اتصال، بل هو مكتبة متنقلة، ووسيلة ترفيه، وأداة عمل، ومنصة للتعبير عن الرأي، وبوابة تطل بنا على عوالم أخرى.
في كل لحظة نلتقط الصور، ونكتب المنشورات، ونتصفح الأخبار، ونشارك أجزاءً من حياتنا مع الآخرين، وكأننا نحيا في فضاء رقمي موازي لا يمكننا التخلي عنه.
هذه العلاقة التي تبدو طبيعية في ظاهرها، تحمل في طياتها تساؤلات جوهرية حول معنى التواصل الحقيقي ومدى تأثير الإعلام في تشكيل وعينا الجمعي؟، ومدى تأثير هذا التدفق الإعلامي المستمر في أفكارنا وقيمنا وسلوكياتنا؟.
ربما نحن بحاجة إلى وقفة تأملية، لا لرفض التكنولوجيا أو التخلي عنها، بل لإعادة ضبط علاقتنا معها، حتى لا يتحول الهاتف النقال من أداة في خدمتنا إلى سيد يفرض إيقاعه على كل تفصيل من تفاصيل حياتنا.