للكاتب /عبدالسلام
الثقافة الليبية والموروث الاجتماعي – هل يعيقان المساواة؟
عند محاولة تشريح جذور الأزمات المتلاحقة في ليبيا، يبرز سؤال جوهري حول مدى قدرة الموروث الاجتماعي والثقافي الليبي على تبني قيم المساواة والمواطنة الفاعلة، أم أن العقلية السائدة تُقدّس التباهي بالهيمنة والاستئثار بالموارد، حتى لو كان ذلك عبر التسلط أو الاستيلاء على المال العام؟ للإجابة على هذا السؤال، لا بد من الغوص في تشابك العوامل التاريخية والهوياتية التي شكلت الوعي الجمعي الليبي، والتي تتفاعل اليوم مع إرثٍ من الأنظمة الاستبدادية وثقافة الريع النفطي.
الموروث القبلي وإشكالية الهوية
ليبيا، كدولة حديثة النشأة (1951)، لم تُبنَ على أساس عقد اجتماعي يوحد هوية أبنائها، بل كانت نتاجاً لدمج ثلاث أقاليم تاريخية (طرابلس، وبرقة، وفزان) تختلف في ثقافاتها وولاءاتها. ظلت الهوية القبلية والعائلية هي الركيزة الأساسية للانتماء، حتى بعد اكتشاف النفط في خمسينيات القرن العشرين. فبدلاً من أن تعمل الدولة على صهر هذه الولاءات في بوتقة وطنية، استغلها الحكام كأداة لتقسيم المجتمع وضمان الولاء عبر منح الامتيازات لبعض القبائل على حساب أخرى.
خلال حقبة معمر القذافي (1969–2011)، تحوّلت الدولة إلى شبكة معقدة من المحسوبيات القبلية، حيث كان الحصول على الثروة النفطية مرتبطاً بالتقرب من السلطة، لا بالجدارة أو الحق. هذا النهج عزّز ثقافة “الغنيمة”، فاصبحت الدولة ساحةً للتنافس على اقتسام الريع، لا مؤسسةً لخدمة المواطنين. وهكذا، تحوّل النفط من فرصة لبناء الوطن إلى أداة لتمزيق نسيجه الاجتماعي.
النفط والثقافة الريعية: من التنمية إلى التبعية
مع تدفق عوائد النفط، اعتمدت ليبيا على نموذج اقتصادي ريعي، حيث تم توجيه الثروة نحو تمويل الرواتب الوهمية والدعم الحكومي غير المُنتج، بدلاً من الاستثمار في البنية التحتية أو التعليم أو الصحة. هذه السياسة لم تُضعف الاقتصاد فحسب، بل شكّلت وعياً جمعياً يعتبر الثروة “هبة” تُمنح من السلطة، وليست ثمرة جهدٍ أو إنتاج. نتج عن ذلك مجتمعٌ يعاني من الاتكالية، حيث فقد الأفراد الحافز للإبداع أو المبادرة، بينما أصبح التباهي بالثراء الفردي – حتى لو كان مُكتسباً عبر الفساد – ظاهرةً اجتماعيةً مقبولة ضمناً. فالثروة، في الوعي السائد، لم تعد مرتبطة بالإنجاز، بل بـ”ذكاء” استغلال الفرص، أو القدرة على استغلال النفوذ. بل إن بعض الشرائح الاجتماعية ترى أن الاستيلاء على المال العام “حقٌ مشروع” تعويضاً عن عقود من القمع أو غياب العدالة.
العقلية الليبية: الفخر بالهيمنة أم السعي للعدالة؟
لا يمكن فهم العقلية الليبية بمعزل عن السياق العربي الأوسع، حيث تتداخل قيم الفخر بالانتماءات الضيقة (كالقبيلة أو العائلة) مع مفاهيم “العزة” و”السلطة” التي تُقاس بالقدرة على الهيمنة، لا بالإنجاز المدني. في ليبيا، تجلّى هذا في تنافس مرير على السيطرة على موارد النفط، إذ تحوّلت الميليشيات والقوى القبلية إلى أدواتٍ للاستئثار بالثروة، بينما تحوّل القانون إلى مجرد ورقة تُخرق حسب المصالح.
هذه العقلية تعكس أزمة ثقة عميقة في فكرة “المصلحة العامة”، يُنظر إلى أي محاولة لإصلاح النظام على أنها تهديد لمكاسب شخصية. حتى التعليم، الذي يفترض أن يكون رافعةً للتغيير، ظلّ لسنواتٍ أداةً لتكريس الوضع القائم عبر مناهج دراسية تُهمّش التفكير النقدي وتُعزز الولاء للسلطة بدلاً من الوطن.
المقارنة مع النرويج: لماذا تنجو المجتمعات الشمالية من “لعنة النفط”؟
على النقيض من ليبيا، نجحت النرويج في تحييد التأثير السلبي لثروة النفط على ثقافتها المجتمعية عبر آليتين رئيسيتين:
– الأولى: بناء هوية وطنية موحدة قائمة على قيم التضامن والمساواة منذ قرون، أي قبل اكتشاف النفط بوقتٍ طويل.
– الثانية: فصل إدارة الثروة عن الصراعات السياسية، عبر مؤسسات محايدة تمنع تحوّل النفط إلى أداةٍ للهيمنة.
أما في ليبيا، فقد افتُتح العصر النفطي في ظل غياب مؤسسات قادرة على إدارة الصراع حول الهوية والموارد، مما جعل الثروة النفطية وقوداً للانقسام بدلاً أن تكون جسراً للتنمية.
إشكالية الثقافة والنظام: أيهما يسبق الآخر؟
ثمة جدلٌ حول ما إذا كانت الثقافة الليبية هي السبب الجذري للأزمة، أم أنها نتاج أنظمة حكم فاسدة. الحقيقة أن العلاقة بينهما أشبه بحلقة مفرغة: فمن جهة، دمرت الأنظمة الاستبدادية (كحكم القذافي) فكرة المواطنة وعمّقت الانتماءات الضيقة.
من جهة أخرى، أعطت الثقافة المجتمعية – التي ترى في الدولة “غنيمة” – الشرعية للفساد واستغلال النفوذ.
لكن هذا لا يعني أن الثقافة الليبية “محتومة” أو غير قابلة للتغيير. فالتجارب العالمية تثبت أن الثقافات قادرة على التحوّل عندما تتغير المؤسسات وتُفتح مساحات للحوار. المشكلة في ليبيا تكمن في أن الصراع الدائر حول السلطة يجعل أي محاولة لإصلاح الثقافة أو المؤسسات مهمةً مستحيلة دون تسوية سياسية تُعيد تعريف دور الدولة والمواطن.
نحو ثقافة جديدة… هل الممكن مستحيل؟
الأزمة الليبية ليست قدراً مرتبطاً بـ”جينات” ثقافية أو تاريخية، بل هي نتاج سياساتٍ فاشلة وغياب رؤية وطنية. فليبيا، التي تمتلك كل مقومات الازدهار، تحتاج إلى إعادة تعريف العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة، بحيث تُدار الثروة لصالح الأجيال الحالية والمستقبلية، لا لتمويل الصراعات.
هذا يتطلب، إلى جانب التسوية السياسية، إصلاحاً تعليمياً يغرس قيم المساءلة والشفافية، وقوانين صارمة تُجرّم الفساد وتكافئ الإنتاجية. النموذج النرويجي لم يظهر بين ليلة وضحاها، بل استغرق عقوداً من الإصلاح التراكمي. أما السيناريو البديل لليبيا، فهو استمرار السقوط في هاوية التمزق، إذاك تتحول الثروة من نعمة إلى لعنةٍ أبدية.