منصة الصباح

النموذج النرويجي و النموذج الليبي، أين الخلل؟ 1-3

عبدالسلام الغرياني

الثقافة كعامل حاسم

تمتلك النرويج وليبيا ثروات نفطية هائلة، وتتشابهان في عدد السكان (حوالي 5.4 مليون في النرويج مقابل 7 ملايين في ليبيا)، لكنهما تقدمان نموذجين متناقضين في كيفية تحويل الثروة الطبيعية إلى رفاهية اجتماعية. بينما تُصنف النرويج كواحدة من أكثر الدول ازدهاراً، تعاني ليبيا من الفقر والتفاوت الحاد. وراء هذا التباين أسباب متشعبة، لكن الثقافة المجتمعية والعلاقة بين المواطن والدولة تلعبان دوراً محورياً في تفسير “الخلل”.

النرويج: ثقافة الثقة والتعاون كأساس للنجاح

لا يمكن فهم النجاح النرويجي دون الغوص في الثقافة المجتمعية التي تُعتبر حجر الزاوية في بناء الدولة الحديثة. فالمجتمع النرويجي، على الرغم من قسوة الطبيعة وندرة الموارد سابقاً، تشكل عبر قرون حول قيم التعاون والمساواة والثقة في المؤسسات. هذه الثقافة لم تُفرض بقرار سياسي، بل نتجت عن مسار تاريخي طويل، حيث اعتمد النرويجيون على العمل الجماعي لمواجهة التحديات المناخية والاقتصادية، مما عزز لديهم فكرة أن “النجاح الفردي مرتبط بالصالح العام”.

عندما اكتُشف النفط في ستينيات القرن العشرين، كانت النرويج قد رسخت بالفعل نظاماً ديمقراطياً شفافاً ومؤسسات قوية. لكن الأهم هو أن الثقافة السائدة رفضت ترك الثروة النفطية تُهدر أو تُستغل لصالح النخبة. بدلاً من ذلك، أصر المواطنون على ضرورة إدارة العائدات لصالح الأجيال الحالية والمستقبلية، وهو ما تجسد في إنشاء “صندوق الثروة السيادي” عام 1990، الذي حوّل النفط إلى استثمارات عالمية تُدار بشفافية.

اللافت هنا أن النرويجيين لا يعتبرون النفط ملكاً للحكومة أو الشركات، بل ملكاً للشعب، وهو ما يفسر قبولهم ضريبة الدخل المرتفعة (تصل إلى 40%)، لأنهم يثقون بأن أموالهم تُستخدم لتمويل التعليم المجاني والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي. هذه الثقة ليست عفوية، بل نتاج عقد اجتماعي تُجسده المؤسسات: فالقضاء مستقل، والإعلام حر، والمواطن يشعر بأنه شريك في صنع القرار.

ليبيا: ثقافة الريع والانقسام كعقبة أمام التقدم

على النقيض، تشكل الثقافة المجتمعية في ليبيا عائقاً أمام أي محاولة لبناء نموذج تنموي مستدام. فالمجتمع الليبي، رغم إمكاناته الكبيرة، يعاني من انقسامات عميقة تتجذر في التاريخ والهوية. فليبيا، التي كانت عبارة عن اتحاد قبلي قبل اكتشاف النفط في خمسينيات القرن العشرين، لم تستطع بناء هوية وطنية موحدة بعد الاستقلال. جاء حكم معمر القذافي ليعمق هذه الانقسامات عبر سياسات قائمة على المحسوبية القبلية وتدمير المؤسسات، حيث حوّل الدولة إلى نظام فردي يعتمد على توزيع الريع النفطي لشراء الولاءات، بدلاً من بناء اقتصاد منتج.

هذا النهج زرع ثقافة الاعتماد على الدولة كمصدر للإيرادات، دون مساءلة عن كيفية إنفاقها. فالنفط في الوعي الجمعي الليبي ليس ثروةً يجب استثمارها، بل “هديةً” تُوزع عبر الرواتب والدعم الحكومي، مما أفقد المجتمع الحافز للإنتاج أو الابتكار. بعد سقوط القذافي، تفكك العقد الاجتماعي الهش، وظهرت الانقسامات الجغرافية (شرق ضد غرب) والقبلية بوضوح، حيث تحولت الميليشيات إلى جماعات رئيسية في السيطرة على موارد النفط، بينما فقد المواطن الثقة تماماً في أي سلطة مركزية.

الفساد هنا ليس مجرد ممارسة فردية، بل جزء من الثقافة اليومية. ففي استطلاع للرأي عام 2022، اعتبر 82% من الليبيين أن الرشوة ضرورة للحصول على الخدمات الأساسية، وهو ما يعكس تآكل فكرة “الحقوق” لصالح منطق “الامتيازات”. هذه العقلية تعززت بسبب عقود من الاستبداد، التي علمت المواطن أن الثروة تُكتسب عبر الولاء للسلطة، لا عبر العمل أو الكفاءة.

الثقافة كمرآة للسياسات: لماذا اختلف المساران؟

الفرق بين الثقافتين لا ينفصل عن السياسات التي اتبعتها كل دولة:

– في النرويج، عززت الديمقراطية التشاركية قيم المساواة، حيث يشعر الفرد بأنه مسؤول عن الصالح العام. أما في ليبيا، فغياب الديمقراطية الحقيقية حتى قبل القذافي جعل الولاءات الضيقة (القبيلة، والعائلة، والمنطقة) تطغى على الهوية الوطنية.

– التعليم في النرويج ركّز على تعزيز الوعي النقدي وثقافة الادخار، بينما ظل التعليم في ليبيا أداةً لتلقين الأفكار الأيديولوجية، دون تنمية مهارات الابتكار.

– الإعلام النرويجي الحر كشف أخطاء الحكومات وساهم في محاربة الفساد، بينما الإعلام الليبي في عهد النظام السابق اداة له وحده و تحول بعد 2011 إلى منصات طائفية تكرس الانقسام.

الخلل الأعمق: الثقافة أم النظام؟

السؤال الجوهري هو: هل الثقافة المجتمعية هي سبب فشل ليبيا، أم أن الأنظمة السياسية هي من شكّلت هذه الثقافة؟ الإجابة تكمن في التفاعل بين الاثنين. ففي النرويج، ساهمت المؤسسات الديمقراطية في تعزيز قيم الثقة، وفي ليبيا، دمرت الأنظمة الاستبدادية أي إمكانية لبناء ثقافة المواطنة.

لكن هذا لا يعفي المجتمع الليبي من المسؤولية. فثقافة “الغنيمة” التي تجعل الفرد يسعى لتعظيم مكاسبه الشخصية على حساب المجتمع، وغياب الحوار حول كيفية إدارة الثروة، عوامل تعيق أي إصلاح. بينما في النرويج، كان للنقاش العام دور حاسم في تبني سياسات بعيدة النظر، مثل تحديد سقف لإنفاق عائدات النفط.

هل يمكن لليبيا أن تتعلّم من النرويج؟

التجربة النرويجية تثبت أن النجاح ليس وليد الثروة الطبيعية، بل نتاج مؤسسات شفافة وثقافة مجتمعية تُقدّس المصلحة العامة. أما ليبيا، فحتى مع وجود خطط إصلاحية، لن تنجح دون معالجة الانقسامات الثقافية العميقة، وبناء ثقة بين المواطن والدولة، واستبدال ثقافة الريع بثقافة الإنتاج. هذا يتطلب جيلاً جديداً يؤمن بأن النفط ليس نقمة، بل فرصة – إذا أُدير بحكمة.

شاهد أيضاً

وزارة البيئة تنظم ورشة حول توسيع المحميات البحرية في ليبيا

وزارة البيئة تنظم ورشة حول توسيع المحميات البحرية في ليبيا

الصباح تحت شعار “حماية ثرواتنا.. مسؤولية مشتركة”، اختتمت امس الأربعاء في طرابلس أعمال الورشة التدريبية …