منصة الصباح

المُثقّف والمجتمع.. من أغلق الباب في وجه الآخر (2)

الدكتورة مفيدة محمد جبران..الكتابة ترميم للروح المتشظية

الكاتب عبدالحكيم الطويل..الثقافة لم تكن شأن أولى في المجتمع الليبي 

 

حنان علي كابو

يكمن دور المثقف الحقيقي في رفع وعي المجتمع من خلال تغيير توجهات فئاته ،بأسلوب فيه من الجاذبية ليقترب ويكون دوره فاعلا يلامس الحقيقية ويكشف عن ثغراته بلغة محببة

فلماذا كبرت الهوة بين المثقف الذي اعتلى منبر الحقيقة ولماذا تقوقع المجتمع بكل أجناسه وأطيافه بعيدا عنه

ولماذا أصبح مايعرف بالمؤثر هو البديل الذي لاغنى عنه …ولماذا فضل المثقف الصمت طويلا

سحب البساط ..

تستهل الدكتورة مفيدة محمد جبران حديثها معي قائلة نود التساؤل هل سحب البساط من تحت المثقف أم هو من آثر الابتعاد والتقوقع علي نفسه

وتضيف …وهذا يقودنا الي تعريف المثقف وهو الإنسان الجامع بين الكم المعرفي والنوع والاثر ومن يساهم في توعية المجتمع ويرفع من مستواه الفكري والمعرفي و الثقافي و يؤثر فيه ايجابيا ويمكن قياس هذا التأثير في سلوك الافراد ( تغيير بعض الظواهر) وتتابع جبران “المثقف المؤثر لابد ان يمتلك شئ من الجرأة في الطرح وفق ما يتملكه من مهارات من يملك صفة المثقف عليه ان يكون حاملا مشعل الرصد و التغيير وان يساهم في بناء الانسان من خلال ما يطرحه من افكار وقضايا تهم المجتمع لا ان يكون متفرجا او متقوقع في خياله

المؤثر ودورا أكبر من حجمه .

وأوضحت جبران حول من منح المؤثر دورا أكبر من حجمه مضيفة ” المؤثر هو من فرض نفسه على المشهد الثقافي وبقوة بعد ان ساعدته التقنية الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي وسهلت له الانتشار فتقمص ادوارا عديدة بسهولة ويسر، وكون ملايين المتابعين

. وأستأنفت “احيانا يكون المحتوي تافه هابط لا يتماشى مع عاداتنا وتقاليدنا وتراثنا وخصوصية المجتمع وله متابعيه .

واحيانا يكون المحتوي هادف ونستطيع اخضاعه للقياس بان نقيس معيار الهادف من التافه من خلال معيار الأفكار والمضامين .

وضربت جبران مثلا صانع المحتوي رحالسيتا ” والذي يعرف وينقل تراثنا الليبي من خلال الحديث على مدننا وحضارتنا كما ينقل لنا ثقافات العالم صوت وصورة هذا يعتبر من المؤثرين الذين لديهم هدف ومحدد شكل ونوع المحتوي

. اذن الافكار والمضامين والوسيلة متوفرة في هذا المحتوي اذن هذا مؤثر جيد وقس على عديد الامثلة

الدكتورة مفيدة محمد جبران

المثقف وصمته جراء مايحدث

. وتشخص جبران لماذا فضل المثقف الصمت جراء ما يحدث تقول يذكر لنا مارتن لوثر : (المصيبة ليست في ظلم الاشرار وإنما في صمت الأخيار

فالمثقف في المجتمعات العربية التي تغيب فيها الديمقراطية وحرية التعبير دائما يخوض في معركة حقيقية وصراع فكري بين ما يريد البوح به والتعبير عنه وبين خشيته مما يترتب عليه هذا البوح

. فالصمت أو السكوت للمثقف اشبه ما يكون بحكم بالإعدام على وجوده الحقيقي، فالمثقف الكاتب يكتب ليحيا فالكتابة ترمم نفسه المتشظية ، ان لم يتواصل مع قضايا مجتمعة ويحمل همومه يجف حبره وتهرم روحه

. وتابعت جبران في بعض الاحيان يلجأ المثقف الي السكوت في القضايا الاجتماعية والسياسية والجوهرية التي تمس المجتمع ليخلق لنفسه مساحة من الامان

. لان من وجهة نظره اذا سلط الضوء على السلبيات ومحاولة معالجتها يضع نفسه امام فوهة مدفع الطرف الاخر الرافض للتغيير الذي قد يضر بمصالحه الشخصية

. وعلى مر التاريخ يرافق التغيير السياسي مرحلة من التدفق الثقافي الكتابي في شتي الفنون والادب والعلوم ، ويحدث تزاحم في حوار الطرشان بين مؤيدي التغيير والرافضين له

.وهذا ما حدث بعد الربيع العربي في ليبيا حيث شهد المشهد الثقافي انفجار لكل الطاقات المكبوتة في الصدور نتج عنه غزارة في المنجز الادبي ، اسهاب في اصدار الصحف والمجلات ،واقامة الحوارات واللقاءات والمنتديات و الجمعيات الثقافية .التي طرحت فيها عديد القضايا التي كانت شبه محظورة في السابق (في ظاهرة من الممكن تسميتها الخروج من القمم دون قيد ).

فشهدنا كتب شاهد عيان لأحداث سياسية ،وسير ذاتية عن القمع السياسي معروضه في القنوات الاعلامية – شهدنا ما يسمي بأدب السجون – شهدنا من تصدر الكتابة عن رموز وطنية كانت ترزح تحت وطأه القمع و الحجر ولعن من سبق ، شهدنا اغاني تنادي بالحرية ـ شهدنا من اتجه الي القضايا الاجتماعية ، وهناك من اهتم بالحيز المكاني ، هناك من اتجه للكتابة عن التراث ….الخ .بالرغم من ان بعض من كتب عن القمع شارك في تولي بعض المناصب في سدة الحكم لكن لم يقدم مشروع نهضوي سياسي ليحدد ملامح الدولة التي نرغب ،ولا مشروع نهضوي يحدد ملامح المشهد الثقافي الليبي ويعالج عيوبه . هذه الصحوة جميلة لكن اذ درسناها بنظرة متفحصة ثاقبة لوجدنا الطبيعة البشرية والسلوك الانساني يتكرر فالانسان هو الانسان اسلوب القمع واسلوب التهميش متأصل للمخالف لنا ، ففي العهد السابق كان قمع اقلام من يخالف الايدولوجية السياسية ومن تسعي لتغيير هذه الايدولوجيه .وبعد الربيع العربي مارس القمع ذاته بأساليب ومنهاج جديدة رفعت شعار التخوين والتكذيب والاقصاء وغيرها .فهناك من استغل المرحلة بغزارة الاصدار الذي يدغدغ العواطف الجياشة لا الحقيقة

. جعل من المثقف الحقيقي يلجا الي الانزواء واتخاذ موقف المتفرج ،ابتعد خشية ممارسة القمع عليه فمازالت السجون تضم في ارجائها المعتمة عدد من اصحاب الاقلام الحرة الجريئة . لكن لاننكر هناك اقلام جادة كانت تسعي لأحداث تغيير فكري حقيقي وحللت الواقع وحاولت نشر الوعي لقضايا مهمة ترجمت في جنس ادبي روايات ذات بعد تاريخي يجسد الهوية و الحرية ، ولم ينأى الفنانون عن تناول القضايا الاجتماعية والسياسية في معارضهم الفنية

اتساع هوة المثقف والمجتمع

وأشارت جبران عن لماذا كبرت الهوة بين المثقف والمجتمع قائلة

المثقف ابن المجتمع ومازال يقدم قضايا المجتمع في منجزه الادبي وخير دليل عدد الادباء والشعراء الاسماء الجديدة التي اثرت المشهد الثقافي في الآونة الاخيرة ،وكذلك التظاهرات والمواسم الثقافية التي تقام بين الفينة والأخرى .اهتمام بعض الاحزاب السياسية بإقامة المحاضرات التي تناقش القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية . الهوة الحقيقية في النوع لا الكم ،وفي العلاقة بين المثقف والراعي لهذا المثقف فغياب دور الدولة من خلال المؤسسة التي تعني بالثقافة واقطابها هي التي اثرت تاثير سلبي على المشهد الثقافي بوجه عام وبوجه خاص على كل المثقفين الكتاب ، والهوة الحقيقية ايضا والمعضلة في الكتاب انفسهم في علاقاتهم واستخفافهم لبعضهم فهناك من لا يتوقف على الاستخفاف بمنجز الغير واتهامهم والتنمر عليهم في المجالس الثقافية التي من المفترض ارقي المجالس واعذبها حديثا

. واستشهدت برأي منقول عن العالم (أحمد زويل العالم المتحصل على جائزة نوبل الذي قال مقولته المشهورة ( لدينا عباقرة مثلهم ولدينا أغبياء مثلهم ، لكن المفارقة أن عباقرتهم يدفعون بهم إلى الأمام والمزيد من التميز ، بينما نحن ندفع بعباقرتنا إلى الهاوية والحضيض)

الثقافة لم تكن شأن أولى في المجتمع الليبي

الكاتب الروائي عبدالحكيم الطويل

ويعتقد الكاتب الروائي عبدالحكيم الطويل أن السبب الجوهري في سحب البساط تحت المثقف هو أن الثقافة لم تكن شأن أوَّلي في مجتمعنا الليبي مثلما هو حال جيراننا في الشرق والغرب بالذات – مصر وتونس- التي تمتد جذورها إلى مئات السنين إن لم تكن آلاف!فكانت – وأظن مازالت-ثقافة مجتمعنا الرئيسة على مر العصور هي التجارة! أما قلة الكُتب التي وضعها أجدادنا فلا تخرج عن الشروح والملخصات الدينية، حتى بعض الكتب التي لمست علوم الفلك كان الغرض منها ضبط مواعيد الصلاة ورصد هلاليْ رمضان والعيد! ربما السبب الرئيس لذلك هو – بخلاف دول الجوار – فالمثقف والكاتب الليبي لم يظهر بشكل واضح لي إلا بعد الاستقلال، حيث دفعته فورة الاستقلال ليقرأ أكثر ويعبر أكثر، والحماسة الوطنية أشعلت النشاط في قلوب قلة المتعلمين الذين أدركوا قيمته التاريخية، فاتجهت إلى الصحافة التي شهدت شيء من الانتعاش أيام المملكة، غير أن ازدهار الحياة الليبية من بعد اكتشاف النفط في 1957 قد أسس في تقديري الحراك الثقافي الليبي بشكله الواسع، فبعد الندرة الشديدة للخريج الجامعي في عهد المملكة، بدأنا نشهد ظهور الكثير من التخصصات العلمية التي تحتاجها بقوة اليد العاملة النفطية وتوابعها، في هذه الفترة ازدهرت حركة نشر الكتب طالما أن عدد الذين أتقنوا القراءة والكتابة صار أكثر مما سبق، غير أن نشر الكتب اعتمد أساساً على رأس المال النفطي الجديد على المجتمع والذي غلب عليه بدرجة ليست منخفضة طابع الدعاية للحاكم وإنجازاته، كما اعتمد في هذه المرحلة المبكرة على أبناء من هاجروا من الليبيين في العهد الإيطالي، حيث نالوا نصيب جيد من التعليم والثقافة في بلدان المهجر

فإذا علمنا أننا مازلنا مجتمع ريعي إلى الآن يعتمد في حياته بشكل غالب على ثروة النفط أدركنا أن الممول الرئيس للنشاط والإنتاج الثقافي الليبي منذ بداياته ليس فقط في يد الحائز على مفاتيح النفط الليبي بل في يد الحاكم الليبي ذاته ففي عهد النظام السابق مثلاً صار هو الممول بشكل احتكاري للحراك الثقافي الليبي مع تجريم كل من عاداه واعتباره خائن وخارج عن القانون! لكنه لم يحتكر تمويل الثقافة لدعم الهوية والتنمية والهوية الوطنية والاحتفاء بالمثقف الليبي بقدر ما كان يستهدف حصر كل إمكانياته وتمويله للدعاية لحكمه وإطالته ومقاومة معارضيه نعم رغم تأسيس”الدار العربية للكتاب” و”الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان”، كمؤسسات رسمية وحيدة تقريباً في تمويلها، وانشغلت الدار العربية للكتاب إلى حد كبير بنشر بعض الإنتاج الليبي الثقافي الأصيل في غفلة من النظام (لكونه مقرب له فمنحه هامش حركة لم يمنحه لغيره)، لكن رغم الإنتاج الغزير والضخم للشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان وقدرتها على توزيع منشوراتها بشكل موسع في الداخل والخارج إلا أنها لم تقصد نشر الثقافة الليبية كما ظن الكثيرون بقدر ما كانت تستهدف “حكر” تأليف الكتاب – الذراع الرئيسة للمثقف آنذاك – في يد السلطة، ففي هذه الشركة تم عمداً ليس فقط محاربة أي فكر سياسي أو ديني أو فلسفي يخالف معتقد النظام بل عدم الالتفات إلى أي ثقافة محلية أخرى بخلاف ثقافته بقوة النفط بهدف صناعة ثقافة خاصة تدعو فقط له ولأفكاره.

زيادة الهوة

ويتابع الطويل في نفس السياق قائلا:

“كل هذه العوامل أدت إلى نتيجة سلبية خطيراً كانت في تقديري من أفدح الأضرار التي أصابت المثقف الليبي المنتج للثقافة وهي زيادة الهوة بينه وبين مجتمعه! إذ لم يعد يجد أن له حاجة يمكن أن يقدمها له المثقف، فهو مجرد مُكرر وداعية لما يقوله رأس النظام وإعلامه، الأنكى هو أن المجتمع بات يعتقد أن كل الكُتَّاب مجرد أبواق مرتزقة للنظام! وأن كل نتاجهم ليس سوى لتمجيد القذافي وأفكاره، فابتعد المجتمع عنهم ابتعاده عن النظام الذي يقوم بتجويعه وحرمانه من مباهج الحياة والأمل في مستقبل أجمل أما ما أشهده في العشرية الأخيرة فهي جهد مقصود دؤوب مكرر يستهدف “صناعة طبقة مثقفة جديدة موالية” للحاكم الجديد من شخصيات مجهولة تماماً قبل 10 سنوات على الأقل،كانت على الأكثر ضمن المتفرجين في الصف الرابع والخامس! ليقفز الكثير منهم فجأة إلى مشهدنا الثقافي دون أي معرفة أو تجربة سابقة وبشهادتهم هم،

إلا أن ينتج مشهداً مهزوزاً لا يربطه شيء بحاجيات مجتمعه ولا ماضيه ولا مستقبله مع أنه افتراضياً هو من يملك تمويل الحراك الثقافي الليبي؟ أي أنه بعد كل هذه السنين، وبدل الحرص على استقطاب خميرة الخبرة الثقافية الليبية من كُتَّاب وناشرين وإعلاميين التي تراكمت من عهديْ المملكة والقذافي بعد نجاحها في مقاومة كل اغراءآت تجييرها وتسطيحها مقابل دولارات براميل النفط أفاجأ بعد 2011 بحذفها بكل بساطة من المشهد الثقافي وبالجملة والعمل على إنتاج شخوص جديدة تدعو للحاكم الجديد مقابل مكافآت مالية ومناصب مغرية، في هذه المرحلة لاحظت أنه كلما كنت أقل ثقافة وأكثر قدرة على التسلق كلما كان استقطابك أسهل بل ومرغوب فيه من قِبَل القوى الفاعلة في رأس الدولة، (ربما لأن هذه النماذج لا كاريزما لها تُهدد بمنافسته!) هذه هي في تقديري أسباب اتهام المشهد الثقافي “الحالي” بالتردي والفراغ، إذ لم تكن شخوصه يوماًمنتجة للإبداع الثقافي، ولا كانت فاعلة فيه حتى بالحضور، إنني أتفاجأ شبه شهرياً بكبار مسؤولي الثقافة يعترفون بأن في حياتهم ما رسموا ولا أداروا أمسية أو معرض فني أو كتبوا حتى عمل تلفزي أو راديوي، فماذا نتوقع من هكذا مسؤولين؟ كيف سيكون المشهد الثقافي وقد احتكروه وتحصلوا على كل مفاتيح تمويله؟ لا شك في أنها رجعة قوية إلى الخلف”

تغيير أدواته التقليدية

و يرى عبدالحكيم إن المثقف الوطني الأصيل لم يصمت ولم يتراجع عن رسالته ولم يتوقف عن نشرها وإنما نتيجة تهميشه القوي حاول أن يُغير من أدواته التقليدية، فبدل الصحافة الورقية شبه المنتهية والفضائيات التي تسيطر عليها أجندات تكتلات سياسية حاكمةكانت أهم وأقوى أدوات توفرت له من بعدها هي الفيس بوك والتويتر واليوتيوب، نعم ربما غُيِّب عن المشهد الثقافي التقليدي لكنه الآن بفضل هذه الوسائل موجود بقوة ويومياً، سواء باسمه الحقيقي أو تحت أسماء وهمية خشية على نفسه وأسرته، بل أننا نلاحظ أنه اجتاح بقوة العديد من صحف الصحافة الإلكترونية في الداخل والخارج، وحينما تتوفر لديه الوسيلة المالية يبادر إلى طبع كتبه في المطابع الرقمية حديثة النشأة في بلادنا منخفضة التكاليف أو عند دول الجوار، مما يحقق له الخطوات الأولى نحو العالمية بمشيئة الله.

شاهد أيضاً

اختتام الحلقة الثالثة من أنشطة التصدي للجريمة المنظمة بأشكالها 

  اختُتِمَت في مقر مركز البحوث الجنائية والتدريب، الحلقة الثالثة من سلسلة أنشطة مشروع: ” …