خلود الفلاح
في كتابها «ليس للحرب وجه أنثوي»، الصحفية البيلاروسية سفتيلانا أليكسفيتش (1948 ) ترصد قصص النساء السوفيتيات المشاركات في حرب بلادهن ضد ألمانيا، تبحث عما وراء مشاركتهن في الحرب، عن موقفهن من الموت، فالموت كان يحوم من حولهن، كان على مقربة منهن، وبصورة مألوفة كالحياة، عن إهانات ما بعد الحرب وافتراءاتها، كيف عزمن على أخذ البندقية في اليد وإطلاق النار والمناورة ونسف الجسور ورمي القنابل؟ كيف فعلن كل هذا في حضرة الرجال؟ استمر بحث صاحبة كتاب «صلاة تشرنوبل» عن المجندات سبع سنوات مذهلة ومؤلمة، سافرت إلى جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي، سجلت مئات الأشرطة، ووصلت إلى ما يقرب ال (500) حوار.
وتقول: اكتشفت بنفسي عالم الحرب، عالم ندرك معناه إلى النهاية، أشعر بالألم والكراهية والإغراء والحنان والارتباك، أحاول أن أفهم بما يختلف الموت عن القتل، وما هو الحد بين الإنساني واللا إنساني؟ كيف يمكن للإنسان أن يقتل إنساناً آخر؟ بل وعليه أن يقتله».
هل في الحرب ثمة أشياء أخرى غير الموت؟ تجيب الصحافية سفتيلانا أليكسفيتش الحاصلة على جائزة نوبل للآداب (2015 )، من خلال بحثي أقول في الحرب كل شيء، كما في حياتنا العادية، فالحرب هي أيضاً حياة.
اصطدام بعدد لا يحصى من الحقائق والأسرار الإنسانية، نساء الكتاب تحدثن عن الحب وهو ما شكل مفاجأة بالنسبة لي وبررت ذلك بأن الحب هو الحدث الشخصي الوحيد للإنسان في الحرب، وكل ما عداه أحداث مشتركة حتى الموت.
قبل الذهاب للجبهة كن يأخذن دورات في التمريض للعمل في المشفى الميداني، كان هذا هو الدور الذي رسم لهن بداية الأمر..
ولأن الحرب استمرت أوكلت لهن مهام أخرى: ضابطة لاسلكي، قناصة، رامية رشاش، وأوضحت أليكسفيتش: “ أحاول أن أفهم كيف كان من الممكن البقاء على قيد الحياة أمام تجربة الموت هذه التي لا تنتهي؟ يشاهدن هذا يوماً بعد يوم ويفكرن، وبصورة عفوية يقارنّ، ويقسون على أنفسهن.
بعد الحرب كانت عندهن حرب أخرى لا تقل رهبة عن تلك التي عدن منها، وإذا ما قررت إحداهن أن تكون صادقة حتى النهاية وانطلق منها اعتراف يائس فإنها تتبعه برجاء أخير في النهاية بتغيير كنيتها».
أن تقابل إنساناً في الحرب وعليك أن تقتله هنا تروي (ماريا _ قناصة) ذهبت إلى الجبهة وهي لم تكمل عامها الثامن عشر في الفترة الأولى، اعترفت: كنت أخشى الإمساك بالبندقية في يدي، ولم أستطع تصور أنني سأقتل أحداً ما، كل ما أردته هو الذهاب إلى الجبهة.
وتقول (كلافديا _قناصة): المرة الأولى كانت رهيبة جداً، فقد لاحظت جندياً ألمانياً يرتفع من الخندق، ضغطت على الزناد، فسقط.
الآن أقول لقد قتلت إنساناً لا أعرفه، لا أعرف عنه شيئاً.. لكنني قتلته.وتتساءل أليكسفيتش في هذا الكتاب الموقع بترجمة نزار عيون السود، الذي يعد باكورة أعمالها في مجال النساء والحرب، ما الذي أريد سماعه بعد عشرات السنين؟ هل يهمني كيف وماذا حدث بالقرب من ستالينغراد، ووصف العمليات القتالية، والأسماء المنسية للقمم التي تم الاستيلاء عليها؟ هل تهمني الروايات عن الانسحاب والهجوم؟
إنها تبحث عن شيء آخر ما يمكن تسميته بمعرفة الروح، تعقب آثار الحياة الروحية، تسجيل خلجات النفس والروح، إن طريق الروح بالنسبة إليها أهم من الحدث نفسه، بل الذي يقلقها وظلت تبحث عنه خلال رحلاتها الصحفية مع الحرب والنساء ما الذي حدث مع هذا الإنسان؟ ماذا رأى في الجبهة وماذا أدرك؟ عن الحياة والموت، عن تاريخ الإنسان العادي الذي انتزع من الحياة إلى سياق البطولة في حدث كبير.
هل بالإمكان نسيان الحرب؟ بالنسبة للمجندات قالت (أولغا_ وحدة البحرية)، نحن عاجزون عن نسيان الحرب، ليس في استطاعتنا ذلك.. أود أن أعيش يوماً واحداً على الأقل بدون حرب، بدون ذاكرتنا عن الحرب، ولو ليوم واحد».
وأشارت صاحبة كتاب «أبناء الزنك» أن للحرب كواليس، فهذه (إيرينا _جندية وطباخة) كانت طيلة اليوم تحضر الطعام، وفي المساء تقوم بغسل ألبسة الجنود، أما (سفتيلانا_ مراقبة صحية) فتعتني بالجرحى، تطعمهم وتسقيهم وتناولهم المبولة.
قبل هذا الكتاب تقول صاحبة «زمن الأشياء المستعملة» لم أكن أسأل نفسي كيف يمكن لفتاة أن تنام عدة سنوات في الخندق أو أمام شعلة النار وأن تمشي بالجزمة والمعطف العسكري سنوات؟ كيف لها ألا ترتدي ثوباً صيفياً خفيفاً خاصة وأن أعمارهن تتراوح بين الثامنة عشرة والعشرين عاماً، وتضيف: «لقد اعتدت التفكير أن لا مكان لحياة الأنثى في الحرب.. إنها مستحيلة، بل ومحظورة.
لكنني أخطأت وسرعان ما اكتشفت أن النساء ومهما كان موضوع حديثهن، حتى عن الموت نفسه، كن دوماً يتذكرن الجمال».