منصة الصباح

المدينة القديمة.. قبل وبعد

محمود السوكني

تنفرد “المدينة القديمة” دون غيرها من أحياء مدينة طرابلس بثراء تاريخها الذي يعج بالشخوص المميزة بملامحها ومواقفها وحتى أسمائها !
إنه حي شعبي توفر له الكثير من أسباب الخصوصية التي لم تتسن لغيره من الأحياء ، فقد حددت منطقته وسيجت بسور عظيم له منافذ على شكل أبواب عملاقة تفضي إلى حواريها وأزقتها ومساربها المتباينة التي ضمت أجناساً مختلفة من البشر، عرباً ويهوداً وطلياناً وليبيين بالطبع ، كل ملة بطباعها وأعرافها وتقاليدها وديانتها ولكنهم جميعا يتفقون على حب حيهم والتفاني من أجل المحافظة على خصوصيته واستقلاليته .

وقد لعب الموقع الجغرافي للحي دوره في تحديد حرف قاطنيه ووسائل عيشهم ، إذ أن أمتار قليلة تفصله عن حوض البحر ، مما دفع أغلب سكانه إلى امتهان حرفة صيد السمك والاتجار فيه ، كما أن الميناء البحري الذي يستقبل واردات البلد واحتياجاته ملاصق لسور الحي ويجاوره من شماله وغربه وبالتالي فقد احتاج هذا المرفق الحساس إلى مجهودات رجال الحي وأبنائه لتسيير أعماله من إدارة إلى تشغيل آلات وتخزين بضائع ومناولتها ,, الخ . ميزة التعلق بالبحر زرعت خصال الصبر والتحمل وروح التكاثف والأثرة بين سكان هذا الحي وتبرز مظاهرها جلية في تعاملهم اليومي الذي تحكمه أواصر متينة ووشائج قوية يندر حدوثها في أحياء أخرى فمنهم من يقتسمون أكلهم ويشرعون أبواب مساكنهم ويسارعون إلى نجدة الملهوف منهم وإغاثتة رغم صعوبة الحياة وقلة الحيلة وضعف الإمكانيات . مناسباتهم أتراحاً كانت أو أفراحاً تجمعهم وتوحد مشاعرهم وتزيد من ترابطهم ، ويصعب على الغريب عن الحي تبين صاحب المناسبة من ضيفها ، من شدة الاندماج فيما بينهم هكذا كان هو رتم الحياة في ذاك الحي العتيق ، كان ذلك في زمن جميل مضى قبل أن يفرغ الحي من سكانه الأصليين وتتفرق بهم السبل ، ويحل بدلاً منهم سكان من ملل شتى لا يربطهم بالحي أي إحساس بوجوده أو انتماء لأرضه وجدران مبانيه ، تعاملوا مع بيوته مأوى لسكناهم و مطارح يدفنون بين جدرانها رؤوسهم عندما يشتد بهم التعب دون إحساس بقيمة المكان وتاريخه الذي يعبق أريجه وتتناثر ذكرياته

لم تفلح جهود القيّمين على مشروع المدينة القديمة في المحافظة على هذا الأثر التاريخي إلا فيما ندر و وفق الإمكانيات المتواضعة التي رصدت الحمايته من أي تشويه أو عبث بقيمته وضاعت كل الأصوات المطالبة بالتدخل لإنقاذ هذا الحي رغم قرار المنظمة الدولية “اليونسكو” باعتباره منطقة أثرية لا يجوز تحويرها أو تشويه ملامحها . إن مكاناً تاريخياً له كل هذه الشهرة والمكانة يستحق تكاثف كل الجهود لصونه وحماية آثاره القيّمة التي تحفظُ تاريخاً وافراً لا يستهان به .

شاهد أيضاً

الروايات بخوتْ

جمعة بوكليب زايد…ناقص حين صدرتْ روايته الأولى(خبزُ على طاولة الخَال ميلاد) منذ سنوات قليلة مضت، صار …