منصة الصباح
المدارس الخاصة.. بين حلم الجودة وفوضى الأسعار

المدارس الخاصة.. بين حلم الجودة وفوضى الأسعار

تقرير/ طارق بريدعة

مع انطلاق العام الدراسي “2025-2026″، تستعد الأسر الليبية لإرسال أبنائها إلى مقاعد الدراسة، وسط واقع تعليمي يزداد تعقيدا عاما بعد عام..

فقد أعلنت وزارة التربية والتعليم أن إجمالي الطلاب المسجلين هذا العام بلغ “2.585.614” طالبًا وطالبة، منهم “2.143,072” في مرحلة التعليم الأساسي، و”442.542″ في مرحلة التعليم الثانوي.. وبين هذا العدد، يدرس أكثر من “500” ألف طالب وطالبة في المدارس الخاصة بمختلف المراحل، منهم “30” الف في المدارس الدولية، وفق ما أفاد به مسؤول في إدارة التعليم الخاص..

ورغم الجهود الكبيرة التي تبذلها العائلات لتجهيز أبنائها بالحقائب والكتب والزي المدرسي، يواجه أولياء الأمور تحديات أكبر مع غياب دور الدولة في توفير أساسيات العملية التعليمية، مثل الكتاب المدرسي، والمقاعد الدراسية، وصيانة المباني المتهالكة..

هذا الواقع يعكس فجوة متنامية بين تحضيرات الأسر، التي تسعى لضمان مستقبل أفضل لأبنائها، وتقاعس المؤسسات الرسمية عن أداء واجباتها تجاه قطاع التعليم..

“المرغني” يأمل في نجاح أبنائه

في أحد أحياء العاصمة طرابلس، يقف “محمد المرغني” أمام مدرسة خاصة تتزين لافتتها بالألوان الزاهية، بينما يتأمل ابنه وهو يدخلها بخطوات مترددة، قبل أن يهمس قائلاً: “هنا يدفع ابني ثمن مستقبل أفضل… أو هكذا أظن.”..

هذه الحيرة تلخص مأساة آلاف الأسر الليبية، التي وجدت نفسها مضطرة لاختيار التعليم الخاص، هربا من الانهيار الذي أصاب المدارس الحكومية، على أمل أن توفر هذه المؤسسات تعليما يليق بأحلام أبنائهم، وإن كان ذلك بثمن يثقل كاهلهم..

طفرة التعليم الخاص بعد “2011”..

بعد ثورة فبراير “2011”، شهد قطاع التعليم الحكومي في ليبيا تراجعًا حادًا بسبب تدمير البنية التحتية، ونقص الكوادر المؤهلة، والانقسام السياسي الذي أصاب مؤسسات الدولة بالشلل..

هذا الواقع دفع كثيرًا من الأهالي، خصوصًا في المدن الكبرى مثل طرابلس وبنغازي ومصراتة، إلى البحث عن بدائل، فكانت المدارس الخاصة هي الملاذ الوحيد أمامهم..

وتشير إحصائيات وزارة التربية والتعليم إلى أن عدد الطلاب الملتحقين بالتعليم الخاص عام “2011” بلغ “135” ألف طالب،حتى أكتوبر “2024”، وصل عدد المدارس الخاصة المسجلة رسميا إلى “2450” إلى جانب ذلك، تنتشر عشرات المدارس غير المسجلة التي تعمل دون أي رقابة حكومية..

أسعار متفاوتة وفوضى في الرسوم..

تلاميذ بمدرسة خاصة

يكشف الأستاذ “أحمد العيان” رئيس قسم التعليم الأجنبي بالوزارة لمنصة “الصباح”، عن وجود “176” مدرسة دولية في ليبيا، تدرّس مناهج عالمية معتمدة مثل البريطانية والأمريكية، وتخضع لمراجعة دقيقة من مركز المناهج..

ورغم ذلك، يؤكد العيان أن الرسوم الدراسية لا تخضع لأي رقابة حكومية، إذ تختلف وفقًا لموقع المدرسة وحجم مصاريفها التشغيلية، ما يخلق تفاوتًا كبيرًا ومنافسة غير متكافئة بين المدارس..

أما الأستاذ “عبد الله القريد” رئيس قسم التعليم الأساسي والثانوي بالتعليم الخاص، فيوضح ل”لصباح” أن هناك أكثر من “2500” مدرسة محلية تعتمد مناهج وزارة التربية والتعليم، مع بعض الإضافات الإثرائية.
ويضيف: “تحديد الرسوم يتم بالاتفاق بين إدارة المدرسة وولي الأمر، حسب مستوى الخدمات التي تقدمها المدرسة.”..

متوسط الرسوم الدراسية للعام الحالي..

المدارس المحلية الخاصة تبدأ من “2.500” دينار وتصل إلى “8.000” دينار سنويًا للصفوف الأولى..

المدارس الدولية:-

المرحلة الابتدائية: من “10.000” إلى “15.000” دينار..

المرحلتان الثانوية “G11 وG12”: تصل حتى “34.000” دينار..

شهادات تكشف الواقع..

قصص أولياء الأمور والمعلمين تعكس حجم التحدي الذي يواجه الأسر الليبية:-

يقول “محمد المرغني”، ولي أمر: “مع انهيار مستوى المدارس الحكومية، وجدت نفسي مضطرًا لاختيار التعليم الخاص، رغم تكلفته العالية.. لكن للأسف، بعض هذه المدارس تحولت إلى مشاريع تجارية هدفها الربح، وليس التعليم.”..

بينما تعلّق “نجاة العربي”، معلمة سابقة في مدرسة حكومية:-

“مدارسنا التي كانت يومًا ما العمود الفقري للعملية التعليمية أصبحت اليوم تفتقر إلى أبسط مقومات التعليم، من معلمين مؤهلين ومرافق صالحة. لذلك لجأ الأهالي إلى المدارس الخاصة، لكن الكثيرين اكتشفوا لاحقًا أنها ليست بالضرورة الحل الأمثل.”..

أما الدكتور “أحمد فرج”، ولي أمر آخر، فيصف الوضع بقوله:

“انتشرت المدارس الخاصة كالنار في الهشيم، أي شخص يملك رأس مال يستطيع فتح مدرسة دون الالتزام بالمعايير التربوية، بينما تُرهق الرسوم المرتفعة كاهل الأسر الليبية.”..

“أيمن سالم” ولي أمر آخر.. قال على مسؤوليتي كنت أدرس أبنائي في مدرسة خاصة محلية حتى وصل أحد ابنائي للصف الأول نقلتهم لإحدى المدارس الدولية، أجروا لهم اختبار اعادوهم لل”kG1″، وبعد فترة قررت تسجيل ابنتي في ال”KG1″ في نفس المدرسة التي درسوا فيها ابنائي، وجدت أن الرسوم الدراسية “3900”، وفي المدرسة الدولية “4000” لم اتردد في تسجيلها في الدولية.”..

التحديات التي تواجه التعليم الخاص في ليبيا..

فصل دراسي

“محمد الدالي” مدير مدرسة.. رغم أن التعليم الخاص ساعد في سد الفجوة التي تركها تدهور التعليم الحكومي، إلا أن هذا القطاع يواجه سلسلة من التحديات الخطيرة:

ارتفاع الرسوم الدراسية بشكل مبالغ فيه دون وجود آلية لضبطها، وضعف الرقابة الحكومية على جودة التعليم والمناهج، ونقص الكوادر المؤهلة، إذ يعمل بعض المعلمين دون تأهيل تربوي كافٍ، وتردي البنية التحتية في بعض المدارس، التي تعمل في مبانٍ سكنية أو مؤقتة، وكذلك الوضع الأمني والسياسي غير المستقر، ما يعرقل أي جهود لتنظيم هذا القطاع..

وقد أعلنت وزارة التربية والتعليم مؤخرا إغلاق “107” مدارس لمخالفتها اللوائح، في خطوة تهدف إلى كبح الفوضى وتنظيم التعليم الخاص، لكنها خطوة لا تزال في بدايتها..

البحث عن توازن بين الجودة والعدالة..

“عبدالقادر موسى” مفتش تربوي بإحدى مراقبات التعليم بالجنوب الليبي، يقول:- من الواضح أن المدارس الخاصة أصبحت عنصرا أساسيا في المشهد التعليمي الليبي، في ظل استمرار ضعف المدارس الحكومية..

لكن مستقبل هذا القطاع يعتمد على إصلاحات جذرية، بحيث يجب وضع معايير صارمة لترخيص المدارس ومراقبة أدائها، وتحديد سقف عادل للرسوم الدراسية بما يراعي دخل الأسر، والاستثمار في تدريب وتأهيل المعلمين وفق المعايير الدولية..

وأكد أنه من الضروري تطوير المناهج المحلية لتواكب التطور العلمي والتقني..

وبينما يحلم أولياء الأمور بتعليم يليق بأبنائهم، ويسعى أصحاب المدارس لاستدامة مؤسساتهم، يبقى السؤال الكبير معلقا…

سؤال أخير ..هل ستتمكن ليبيا من إيجاد معادلة توازن بين جودة التعليم، وقدرة الأسر على تحمّل تكاليفه؟

يبقى مستقبل التعليم في ليبيا رهينا بإرادة الإصلاح، ومحاسبة الجهات المقصّرة، فالتعليم ليس رفاهية، بل حق أساسي ومفتاح لمستقبل أفضل..

وبين مدارس حكومية تنهار، ومدارس خاصة تتسابق في فرض الرسوم، يقف آلاف الطلاب على مفترق طرق، في انتظار حل يعيد للأجيال القادمة الأمل في تعليم حقيقي، يواكب طموحات الوطن..

شاهد أيضاً

دار الكتب الوطنية تحتضن معرض بنغازي الدولي للكتاب

دار الكتب الوطنية تحتضن معرض بنغازي الدولي للكتاب

تستعد دار الكتب الوطنية في بنغازي، لاحتضان فعاليات الدورة الرابعة من معرض بنغازي الدولي للكتاب، …