في مشهدٍ أثار كثيرًا من القلق القانوني والسياسي، أدى عدد من المستشارين القسم أمام رئيس مجلس النواب الليبي بصفتهم أعضاءً فيما سُمِّي بـ”المحكمة الدستورية العليا”، المنشأة بموجب القانون رقم (6) لسنة 2023، رغم أن هذا القانون قد جرى إسقاطه بحكم نهائي بات صادر عن المحكمة العليا – الدائرة الدستورية، وقضى صراحةً بعدم دستوريته وانعدام آثاره ، كما صدر مرسوم رئاسي لاحق من المجلس الرئاسي بوقف آثار القانون والإجراءات المتفرعة عنه.
ومع ذلك، يُباشر هؤلاء المستشارون الآن أعمالهم، في خطوةٍ تمثّل خرقًا فاضحًا لحكم قضائي واجب النفاذ، وانتهاكًا صارخًا لمبدأ الفصل بين السلطات، وتهديدًا مباشرًا لبنية القضاء الدستوري في ليبيا.
أولًا: المحكمة الدستورية دون دستور!
إن إنشاء محكمة دستورية عليا في ظل غياب دستور نافذ يُعدّ من الناحية القانونية مخالفة جسيمة للمنطق الدستوري ذاته، فالمحكمة الدستورية لا تنشأ في الفراغ، بل تستمد شرعيتها واختصاصها من نصوص الدستور الذي تُعهد إليها بحمايته، وتراقب مدى دستورية القوانين في ضوئه. أما في الحالة الليبية، فلا يزال مشروع الدستور مجمدًا ولم يُعرض على الاستفتاء الشعبي، وبالتالي فإن إنشاء محكمة دستورية في غياب هذا الإطار المرجعي يمثل نوعًا من الهندسة الدستورية المعكوسة، بل أداة سياسية للهيمنة على مسارات التقاضي لا لحمايتها.
ثانيًا: اغتيال الحق في التقاضي
بموجب القانون رقم (6) لسنة 2023، حُصرت صلاحية الطعن بعدم دستورية القوانين في فئات ضيقة: إما رئيس مجلس النواب نفسه، أو رئيس حكومة منحها الثقة المجلس ذاته، أو عشرة من أعضائه. وبذلك جرى إغلاق باب الطعن لاي مواطن ذي مصلحة من تقديم الدعوى المباشرة التي كانت متاحة سابقًا أمام كل متضرر، وفق النظام الليبي السابق الذي مكّن الأفراد من رفع الطعون أمام المحكمة العليا. إن هذا التطور يُفرغ الرقابة الدستورية من مضمونها، ويحيلها إلى مجرد أداة سياسية بيد الجهة المُشرعة ذاتها التي يُفترض أن تكون موضع الرقابة
ثالثًا: بروز حالة من ازدواجية القضاء الدستوري
ما يحصل الآن هو ازدواج قضائي خطير: فالمحكمة العليا – الدائرة الدستورية – لا تزال قائمة وتواصل الفصل في الطعون الدستورية، باعتبارها صاحبة الاختصاص الأصيل، فيما يُدفع اليوم بمستشارين جدد لمحكمة أُعلن عن إلغائها بحكم قضائي، وجرى تجميدها بمرسوم رئاسي. هذا الانقسام لا يمثّل فقط فوضى قانونية مؤسساتية، بل هو يضع الخصوم الدستوريين في حالة تضارب قسري بين مسارين قضائيين متوازيين، قد يصدران حكمين متناقضين في القضية ذاتها. إنها حالة من الانهيار القانوني التدريجي.
إن ما حدث هو “مسمار في نعش السلطة القضائية”
فليست هذه المرة الأولى التي ينتهج فيها مجلس النواب سياسة خلق أجسام موازية لتقويض الأجسام القائمة، كما رأينا في الصراع مع الحكومة، والمصرف المركزي، ومؤسسات الرقابة. لكن المختلف هذه المرة، هو أن الأمر طال السلطة القضائية ذاتها، عبر محاولة هندسة قضاء دستوري خاضع، يلتفّ على الدائرة الدستورية، ويُقصيها بعد تاريخ حافل في صون العدالة الدستورية. بهذا الفعل، يُدق أول مسمار في نعش استقلال القضاء الليبي.
وفي الختام وجب ان ننوه و نُحذّر من أن استمرار هذا المسار سيُفضي إلى تعدد المرجعيات القضائية الدستورية، وإلى أزمة ثقة في الشرعية القانونية للأحكام، خاصة إذا بدأت سلطات الدولة تتعامل مع إحدى الجهتين دون الأخرى. لا بد من وقف العمل الفوري بهذه المحكمة الموازية، والتقيد بأحكام المحكمة العليا، تمهيدًا لحلّ جذري يتمثل في الذهاب للاستفتاء الشعبي على الدستور أولًا، ثم بناء مؤسسات دائمة على أساسه، لا على نزوات التشريع الأحادي.
د. مجدي الشبعاني
أستاذ القانون العام المساعد