منصة الصباح
كيف أدار الليبيون ظهورهم لأطول ساحل متوسطي؟

كيف أدار الليبيون ظهورهم لأطول ساحل متوسطي؟

استطلاع / إبراهيم الحداد

عند الفجر، حيث يرسم المتوسط خطاً ذهبياً على الأفق، تنسحب قوارب الصيد الليبية ببطء، لكنها لا تحمل معها صيداً وفيراً بقدر ما تحمل أسئلة مقلقة..

كيف لبلد يمتلك أطول شريط ساحلي في شمال إفريقيا (1960 كيلومتراً) من كنوز البحر، وعمقاً إقليمياً يصل إلى 64 ميلاً بحرياً، أن يعيش تحت رحمة الأسماك المستوردة ولحوم الإبل والدجاج؟

قطاع الصيد البحري في ليبيا ليس مهماً بقدر ما هو مُهمَل، يواجه تحديات معقدة تبدأ من القاع وتصل إلى المائدة الليبية.

تواضع الإنتاج السمكي مقابل الاعتماد على المواشي

تناقض صارخ..

يكمن التناقض الأكبر في ثقافة الاستهلاك.

مياه ليبيا غنية بأكثر من 500 نوع من الأسماك، تشمل التونة الزرقاء النادرة، والمرجان، والقاروص الذي تتنافس عليه الأسواق الأوروبية.

لكن الليبيين، تقليدياً، يميلون بعشق جارف نحو اللحوم الحمراء، لا سيما لحم الإبل والدجاج، متجاهلين الثروة السمكية حتى مع الارتفاع الجنوني في أسعار اللحوم.

هذا التفضيل يقتل الطلب الداخلي ويجعل الإنتاج خجولاً، بينما تئن موارد اللحوم الحمراء تحت وطأة الاستنزاف.

هذا النمط الغذائي لا يضع ضغطاً على المراعي فحسب، بل يساهم بشكل مباشر في استمرار تواضع الإنتاج السمكي المحلي الذي لا يجد سوقاً محلياً كبيراً يستوعب فائضه، ويلتهم موارد الدولة من العملة الصعبة في استيراد تلك الحيوانات والأعلاف.

وقد أكدت تقارير عن مصرف ليبيا المركزي أن البلاد استوردت لحوماً ومواشي بقيمة 520 مليون دولار سنة 2023 فقط.

الهجرة غير الشرعية والتلوث يهددان الثروة البحرية

الموانئ بين الأحلام والكوابيس

الصيد في ليبيا ليس مجرد منافسة بيولوجية، بل هو صراع مستميت للنجاة.

يقول أحمد الخمسي (70 سنة)، صياد متقاعد قضى أربعين عاماً في ميناء المريسة ببنغازي، بمرارة:

 “نحن نمتلك بحراً سخياً، لكن مراسينا صغيرة وملوثة”.

صياد آخر قابلناه اشتكى من تواضع البنية التحتية المخصصة للصيد، و”التي تشمل أكثر من 26 مرفأ ومرسى متخصصاً، لا تزال بدائية وتفتقر لورش الصيانة والتبريد الحديثة، ومراكز الأرصاد لمعرفة الأنواء، ويسيطر عليها أجانب من الهجرة غير الشرعية بشكل بدائي”.

ويعقد هذا الصياد مقارنة بين الموانئ التجارية الكبرى ومرافئ الصيد، التي تعتبر من وجهة نظره «شرايين منسية تعاني الإهمال»، قائلاً إن هذه المرافق المتواضعة لا تخدم الصيادين المحليين بالكفاءة المطلوبة، ولا تستطيع استيعاب أساطيل صيد حديثة قد ترغب في تطوير أعمالها.

تحديات تتجاوز الموج

صيادون آخرون أشاروا إلى ما يعانونه من كابوس أمني وبيئي، يتمثلان في مضاربة تجار الهجرة على القوارب السمكية:

“يتم الاستيلاء عليها أو استخدامها بالقوة بالاستعانة بالمسلحين في نقل الضحايا، مما يُحوّل سفن الرزق إلى أدوات للتهريب ويُهدد سلامة الصيادين ويعطّل مهنتهم الأساسية”.

الصيادون يعانون كابوس أمني وبيئي

على الصعيد البيئي، يواجه البحر تهديد التلوث الساحلي الناجم عن مخلفات المصانع مثل مصانع الأسمنت وبعض الموانئ النفطية، إضافة إلى غياب الرقابة الفعالة على المياه الإقليمية التي أصبحت مرتعاً لعبث أساطيل سفن الصيد الأجنبية التي تستنزف الثروات دون حسيب أو رقيب، متجاهلة القوانين الدولية وحقوق ليبيا في مصايدها الغنية.

الثورة الزرقاء

اليوم، لا يغطي الإنتاج السمكي الليبي سوى جزء ضئيل من الاستهلاك، مما يجعل البلاد تستورد الأسماك من أحواض قد تكون ملوثة وغير نظيفة.

لكن الخبراء يرون أن الحل لا يكمن فقط في حماية المياه الإقليمية، بل في تبني “الثورة الزرقاء” عن طريق الاستزراع السمكي، باستغلال الشاطئ الطويل لإنشاء مزارع سمكية حديثة ومنظمة لإنتاج كميات مناسبة من الأسماك.

وتشمل قائمة الحلول:

التطوير البشري والمادي: تحديث أسطول الصيد وتدريب الصيادين على الأساليب المستدامة والحديثة، واستخدام التقنيات الحديثة في الملاحة وتتبع أسراب الأسماك المهاجرة ورعايتها وحماية مكامن البيض والتزاوج لديها.

تعزيز الرقابة: تفعيل دور خفر السواحل الليبي ودعمه بالقوانين والمعدات لحماية الثروة السمكية من الصيد الجائر والتعديات.

تغيير الثقافة: بتوجيه حملات إعلامية لتغيير ثقافة الاستهلاك وتشجيع الليبيين على العودة إلى خيرات بحرهم كمصدر غذاء صحي واقتصادي.

إن استثمار الدولة في هذا “الذهب الأزرق” وتغيير ثقافة الاستهلاك هو استثمار في صحة المواطن الليبي وفي مستقبل الأجيال، ليتحول الشاطئ الطويل من مصدر للتحديات إلى شريان حيوي للتنمية المستدامة والأمن الغذائي، وممر اقتصادي لا يُستهان به.

شاهد أيضاً

أصوات أدبية تكشف عن حواراتها المؤجلة مع شخصيتهم المفضلة

أصوات أدبية تكشف عن حواراتها المؤجلة مع شخصيتهم المفضلة

حنان علي كابو من جين أوستن إلى عبد الفتاح كيليطو، ومن أبو فراس الحمداني إلى …