الصباح/ حنان علي كابو
في بلاد تعيش حالة مزمنة من التوجّس تجاه الفنون البصرية، يجد الفنان نفسه محاصرًا بأسئلة لا علاقة لها بالإبداع، بقدر ما هي امتدادات لثقافة التحريم والممنوع..
هذا ما عبّر عنه الفنان التشكيلي الليبي علي العباني، وهو يستعيد بداياته الأولى ويتأمل مسيرته التي امتدت لعقود من المثابرة والانشغال باللون والشكل والرمز، في مواجهة القيود الاجتماعية والثقافية والدينية..
من “القومن” تبدأ الحكاية
يروي العباني أن جذوره الإبداعية انطلقت من مكان استثنائي في الجغرافيا الليبية يُعرف بـ”الڤومن” – وهي كلمة أمازيغية تعني “عين الماء” أو “النبع”.
تقع هذه البقعة الساحرة بين مزارع الخضراء شرق ترهونة، وتتداخل مع سفوح جبل نفوسة المطلّة من بعيد على ساحل المتوسط، ما بين قصر خيار والقره بوللي.
تلك الطبيعة المركّبة، وما تتيحه من تدرجات لونية وتكوينية، شكّلت مبكرًا إحساسه بعلاقة الفن بالمكان، وبكون اللون ليس مجرّد أداة تعبير بل مرآة لذاكرة الأرض والإنسان.

الرضى المؤجَّل… في ظل واقعٍ قاسٍ
وحين سُئل إن كان راضيًا عن تجربته الفنية، أجاب العباني بصراحة:
“الرضى التام لا أظنه متاحًا. فنحن في بلاد لا تتيح للفنانين التفرغ الكافي للأداء المثالي. الفن في ليبيا، كما في كثير من دول الشرق، ظل محاطًا بقيود اجتماعية وثقافية، جعلت من حرية التعبير ترفًا نادرًا.”
ويرى أن هذا التقييد أفرز ظواهر فنية حاولت التحايل على الرقابة عبر استدعاء مضامين تراثية أو ثقافية مقبولة اجتماعيًا، كما حدث في موجة “الحروفية” التي انطلقت من العراق وامتدت إلى المغرب العربي تحت مظلة التجريد الثقافي.
الفن تحت مقصلة الفتوى
ويستذكر العباني تجربة خاصة من أواخر السبعينيات، حين صدرت فتوى من دار الإفتاء الليبية بطلب من وحدة الفنون التشكيلية بوزارة الإعلام، بهدف وضع تعريف وطني لحدود الفنون البصرية.
صاغ تلك المراسلة الفنان الراحل الطاهر الأمين المغربي، في محاولة لتفسير شرعية الرسم والنحت، خاصة بعد تصاعد الجدل حول أعمال تشخيصية عُرضت في معارض ليبية، من بينها عملان نحتيان للفنان علي قانة يجسدان الشاعرين الشارف والمهدوي.
“هذه الفتوى لم تكن حدثًا عابرًا، بل شكّلت مرجعية ضمنية في الوعي الجمعي للفنانين، خاصة مع تنامي الحذر من كل ما هو تشخيصي أو رمزي. حتى التماثيل العامة لم تسلم من هذا الحصار، إذ أُزيل تمثال سبتيموس سيفيروس من أحد ميادين طرابلس، وتعرض تمثال الغزالة لأضرار جسيمة.”

ويضيف:
“كنت من ضمن الفنانين الذين نظّموا وقفة احتجاجية أمام متحف السراي، للمطالبة بنقل التماثيل إلى فضاء آمن داخل المتحف، ومنها منحوتة الغزالة، وسبتيموس، وأيضًا عمل نحتي بعنوان “ضراوة” كان موضوعًا أمام وزارة الخارجية، ويتناول حالة صراع تعبيري جريء.”
بين المعرض والحضور العام: سيرة من التشكّل
منذ انطلاقته في سبعينيات القرن الماضي، شكّل علي العباني حالة فنية خاصة ضمن المشهد التشكيلي الليبي، تستند إلى وعي بصري متجذر في الأرض والتاريخ، ومفتوح على أسئلة الحداثة والانتماء.
لم تكن مسيرته انعكاسًا للمدرسة الأكاديمية فحسب، بل تجربة حية في البحث والتجريب، مستلهمة من الرموز الشعبية، والمكان الريفي، والعمارة التقليدية، والهوية البصرية الأمازيغية والعربية التي كوّنت ذاكرته.
أقام العباني عشرات المعارض الفردية والجماعية داخل ليبيا وخارجها، وشارك في ملتقيات تشكيلية عربية، وكان من الأسماء التي أسهمت في ترسيخ حضور ليبيا على خارطة الفن العربي، رغم محدودية الدعم المؤسسي والتحديات السياسية.
تميزت أعماله بميله إلى التجريد الرمزي، واستلهامه للكتابة الحروفية دون أن يقع في محاكاة نمطية، بل سعى إلى تقديم “رؤية ليبية” خالصة، تمتزج فيها الذاكرة الشخصية بالرمز الثقافي.

الفن كحالة مقاومة
في ظل توترات السياسة والدين والمجتمع، ظل علي العباني مؤمنًا بأن الفن ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية في بلد لم ينصف فنانيه كثيرًا.
ولذلك، لا يندهش حين يُسأل عن الرضى، فيُجيب:
“الرضى الكامل حلم بعيد، لكن كلما أمسكت باللون، أشعر أنني أقترب من شيء يشبه الوطن.”
في مواجهة تحوّلات الفن العالمي
وفي سؤال أخير حول تحوّلات الفن المعاصر، ومكانة التشكيل الليبي على الخارطة العالمية، قال العباني:
“تغيّرت مفاهيم الفن والتشكيل بشكل جذري منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ظهرت مدارس جديدة تجاوزت الأطر التقليدية والمزاولات التعبيرية المعتادة، حتى كادت تختفي معها اللوحة الكلاسيكية كما عرفناها، من الألوان الزيتية أو المائية، في كبرى صالات العرض العالمية.
لقد ولدت رؤى فكرية وبصرية مغايرة مع بدايات الحداثة، ووجدت تجلياتها في محافل العرض الكبرى كـ بينالي فينيسيا بإيطاليا، ومعرض الدوكومينتا بمدينة كاسل الألمانية، إلى جانب ما تتبناه المتاحف الكبرى في برلين وروما وباريس ونيويورك.
في هذه الفضاءات، لم تعد اللوحة وحدها تكفي. أصبحت الفكرة هي العمل، وصار التشكيل حقلاً مفتوحًا للتجريب والدهشة والانفلات من القوالب.
للأسف، في العالم العربي لم تتحقق بعد مجاراة هذه التحوّلات. ما زلنا خارج سياق اللحظة التشكيلية العالمية، لا لقصور في الفنانين، بل لغياب المؤسسات الداعمة. لا توجد وزارة ثقافة فاعلة تتيح للتشكيليين أو النقاد أو الصحفيين في ليبيا حضور هذه التظاهرات الكبرى، أو حتى الاطلاع المباشر على ما يدور في قلب الحداثة التشكيلية.”..
السيرة الذاتية للفنان “علي العباني“
– الميلاد: 1946، ليبيا..
– الدراسة: تلقى دراسة الفن في روما..
– الانتماء المهني:-
– عضو مؤسس في نادي الرسامين بطرابلس عام 1960
– عضو مجلس التنمية والإبداع الثقافي ومستشار الفنون الجميلة في رابطة الفنانين الليبيين..
النشاط الفني والمعارض:-
– انخرط في الحركة التشكيلية الليبية منذ أوائل الستينيات .
– شارك في 47 معرضًا بين عامي 1963 و1997، منها 22 معرضًا خارج ليبيا..
– أدار 5 معارض شخصية، منها ثلاثة في مالطا وتونس وإسبانيا..
– نال جائزة “الشراع الذهبي” بمعرض السنتين العربي في الكويت عام 1975..
الإنجازات والمؤلفات..
– أصدر عام 1997 كتابًا بعنوان “علي العباني – معزوفة التجريد الطبيعي” عن دار الفنون في طرابلس، يضم أكثر من 80 لوحة تغطي الفترة من 1972 إلى 1997 ..
– أتمّ إعداد موسوعة بعنوان “تاريخ الفنون التشكيلية في ليبيا”، وأُُقرت مطبوعتها عبر منظمة الألكسو ومقرها تونس..
الأسلوب الفني..
– انتقل بين مراحل فنّية متنوعة:-
– الواقعية
– الانطباعية
– الحروفية والخط العربي
– الفن الزخرفي (خيول، سروج، السجاد، عناصر من الفن الإسلامي)
– ابتعد عن التمثيل الواقعي للموضوع، وركز على الفضاءات اللونية والشعرية، مبرزًاَ اللون كـ”ذاكرة للضوء والظل والزوايا”.
– تأثر بقيم الموروث الليبي والطبيعة المحيطة، خاصة تجربته في ترهونة (100 كم شرق طرابلس)، بينما لم يؤثّر التعليم الأكاديمي بدوره في المحتوى الفني العميق لأعماله
– المشاركات الثقافية والإدارية
– عضو الأكاديمية الليبية الإيطالية
– شغل مناصب فنية إدارية ومشاركات مؤثرة في المجتمع الفني الليبي، داعما للحركة التشكيلية محليًا وإقليميًا ودوليًا..