محمد الهادي الجزيري
بدأت أبحث عن كنوزي المركونة في فوضى المكتبة،فالحقيقة أنّي أوشك على الشفاء وبي جوع شديد لمحتوى مكتبتي التّي لم أطلّ عليها منذ مدّة، أوّل من لفت انتباهي كتاب مصقول وجميل، للصديق الراحل منذ شهرين أو أكثر..وهو الشاعر الأردني عيد النسور الذي لم أحظ يوما بملاقاته في حياته ، كان صديقا افتراضيا أتواصل معه بين حين وآخر ولم أعلم بكاره اللذات ومفّرق الجماعات ..أن زاره وسافر به إلى الأعلى، أذكر كيف حطّ هذا الكتاب بين يديّ ، علما أنّه يضمّ الكثير من شعره، أذكر أنّه وصلني يوم كنت في المستشفى…جزاه الله خيرا وأسكنه فراديس جنانه، خلاصة القول رحمه الله وتغمّده بوافر المغفرة ..أمّا نحن فلدينا اليوم وليمة شعريّة ..فلننصفها من النسيان والإهمال ..قال عيد النسور
” حزنت
ولم أكسر الناي يا صاحبي
وظمئتُ
ولم أحتس كأس الرياء
ولا حفرت خلجات الفؤاد
لراوية الهمّ بئرا
ولم أدع خيل السراب
لتشربه الملح عنّي
ولم تنحن الرأس والريح تترى
وحين تساءلت ذات وقار
لم العين تحبس دمعة قهر؟
أجاب الوقار بصمت لمن صاح..
حين المآقيَ تُشوى
تذرف العبرات”
نحن أمام شاعر طفل، يواجه الغموض بالوضوح ، لا يعتبر مثل الكثيرين أنّ الكتابة ترف ولهو بالكلمات ، نحسّ أنّه يكتب كي يشفى ، يكتب كي يقول ما يريد ، يكتب لينتصر على الهمّ والقهر، ويبعث فينا الأمل والتفاؤل …، عيد النسور لم يكسر الناي وإن كان على ظماء وكانت الدنيا لا تعيره أيّ انتباه أو اهتمام ككلّ صوت قويّ مغاير لا يرضى بالواقع المزري المتعفّن ..هو ما يقوله وليس ما تتوهم الحياة حيازته
يقول عنه الدكتور راشد عيسى : ينطلق عيد النسور من وجدان شفيف يتقاطر رومانسية ورذاذا عاطفيا صادقا، يتنفّس بوحه بعفويّة لغويّة منتصرا إلى المعنى ومصداقية الأحاسيس المبثوثة،فالفضاء الرمزي في شعره قريبا من متناول الذوق العام، كما أنّ الصورة الفنية خلو من التعقيد والإغراب
” هيَ تعلم
ثمّة سحر..
في عينيها بعثر كلّ أنايَ
وتعلم همس الأنامل…
ما عاد يكفي فتى الجبليّ الهوى
هي أنثى دافئة البوح
تسأل…
من دغدغ النجم حينا؟؟”
كتاب ” شراك الصقيع ” مجموعة هامّة ممّا كتبه عيد النسور، وهو يلخّص تجربة شاعر أحبّ الحياة وأخلص لها ، ويحدّثنا عن هواجس إنسان اليوم، دون مواربة أو خوف أو رقابة ذاتيّة ، لا شيء سوى بوح يرقى أعلى درجات الإدانة والرفض لما يحدث على ظهر الكوكب و لا يسعنا إلاّ التوقّف عنده بعض الوقت ، احتراما له ومباركة له…
ممّا كتبه على ظهر الغلاف الدكتور حكمت النوايسة: تقيم قصيدة الشاعر المبدع، والإنسان الكبير، في المنطقة المعافاة تماما، فهو ينثر عندما يكون (الجوّ) نثرا، ويموسق عندما يكون هذا الجوّ مموسقا ، موقنا أنّ القصيدة ليست الإيقاع وحده، وليست الفكرة وحدها، وإنّما هي ما ينبغي ما تكون، بلا عسف ولا اعتساف
وليس في وسعنا بعد هذه الجولة الخاطفة إلاّ أن يترحم عليه ..فقد كان صديقا رائعا وحريصا على نشر إنتاجه الشعري والنثري في أدوات التواصل الاجتماعي ..ولكن الموت حان ..وتلك هي الحياة الدنيا ….. .