خلود الفلاح
القارئ الذي قضى حياته قارئًا، وحرق عينيه تحت ضوء المصباح، وعنده القراءة هي فن المسافة والنطاق.
القارئ الأخير، هو خورخي لويس بورخيس بحسب الكاتب الأرجنتيني ريكاردو بيجليا.
في كتابه “القارئ الأخير” الصادر عن (منشورات المتوسط ـ الطبعة الأولى ـ ـ2020) وبترجمة عن الإسبانية للروائي والمترجم أحمد عبد اللطيف، يجيب ريكاردو بيجليا عن سؤال: من القارئ؟ وكيف تغير القراءة مصائر الشخصيات في العمل الروائي؟ وكيف صنف القراء إلى عدة تصنيفات منها: القارئ المثالي، والقارئ المدمن، والشره، والمجرم، والنموذجي، والقارئ الذي حولته النصوص السردية إلى بطل تراجيدي. أما القارئ الأكثر إقناعا هو بورخيس، بحسب قوله. وأن من يسيء القراءة، ويشوه النص، ومن يتلقاه بشكل مبهم هو أيضا “قارئ”.
ويخلص صاحب كتاب ” الطريق إلى إيدا” إلى أن سؤال ما “القارئ” يعني سؤال ما الأدب؟ وهذا السؤال الذي يشكله ليس سؤالا بعيدا عن ماهيته، بل هو شرط وجوده. وإجابته لمصلحة القراء. هو الحكاية المختلفة دائما.
يصل ريكاردو بيجليا، إلى القارئ عبر الكاتب نفسه، الكاتب القارئ الذي تدور حياته حول فعل القراءة،
مثل بورخس، كافكا، تولستوي، جويس، ثيربانتس.
ويقول المترجم أحمد عبد اللطيف “يسرد ريكاردو بيجليا، كقارئ عظيم، تاريخ قراءته هو ذاته عبر الأعمال التي يستعرض قراءتها وتحليلها، فيقدم منظورًا حادًا وفطنًا لهذه الأعمال، ليعيد إليها الحياة بعمق نقدي متوقع من كاتب هو بالأساس ناقد وأكاديمي يتتبع أصول البحث العلمي من فرضيات تؤدي إلى نتائج شديدة المنطقية، ساعده في ذلك إجادته للعديد من اللغات كما ساعده كونه روائيًا وذا نظرة نقدية متفحصة”.
نذكر أن، ريكاردو بيجليا (1941-2017) روائي وقاص وناقد وأكاديمي من الأرجنتين. وهو أحد أبرز أدباء اللغة الإسبانية في النصف الثاني من القرن العشرين.
ويشير صاحب كتاب “المدينة الغائبة” إلى مساءلتين في القراءة وهي: فن الميكروسكوب أو فن المنظور والفضاء فنجده عند الإسباني ميغيل دي ثيربانتس، والمساءلة الثانية وهي أن القراءة خاصة بالنظر والضوء والبعد الفيزيائي وهذه نجدها في أعمال الأيرلندي جيمس جويس وخاصة روايته ” يقظة فينيغان” والتي تعد معملا يخضع القراءة لأكبر اختباراتها.
ويتحدث بيجليا عن إن تقفي أثر الطريقة التي قدم بها الأدب صورة القارئ تفرض علينا زن نعمل في حالات محددة، وقصص مختلفة تشكل شبكات وعوالم ممكنة.
الواقع والأحلام
يرى صاحب كتاب “النقد والخيال” أنه يمكن لقارئ الروايات استيعاب الرسائل وفك شفرتها عبر القصة نفسها، وبعيداً عن فهم المعنى، بمعنى هناك تجربة وهي ما تسمح بفك شفرات الرسائل وليس تأويلها. في إشارة منه إلى رواية ” تحت البركان” للروائي مالكولم لاوري.
ويخلص بيجليا، إلى أن هناك ثمة شيء حقيقي في ممارسة القراءة يمكن أن نمسك به وهو انعكاسها، منطقتها السرية، واستخداماتها غير التقليدية، بمعنى القراءة خارج المكان. والنموذج الأقرب لهذه القراءة يكمن في الحلم أي في الكتب التي تقرأ فيها الأحلام.
يشير بيجليا، إلى أن ثمة علاقة بين القراءة والواقع، وعلاقة أخرى بين القراءة والأحلام. ومن هنا يبدأ العمل الروائي طريقه. ويضيف: عند تأمل مشاهد القراءة يخلق الأدب فردانية من يقرأ، فيغدو مرئيا أي الناقد، ولكنه ليس القارئ الوحيد، ولا حتى أهم قارئ. ما يهمنا ليس معرفة، ما هي القراءة؟ وإنما من الذي يقرأ (أين يقرأ؟ لماذا يقرأ؟ في أي ظروف يقرأ؟ وما هي حكايته)؟
ويلفت بيجليا، إلى أن أول من فكر في معرفة من هو جمهور القراء هو الروائي ما ثيدونيو فرنانديث.
كان يتوق إلى أن تكون روايته ” متحف الرواية الخالدة” العمل الذي يكون القارئ فيه، في النهاية مقروءاً.
مواصفات القارئ
هل القارئ كائن منعزل؟ وهنا يجيب كافكا ” إن الحياة لا تتوقف، لكنها تبتعد فحسب عن من يقرأ، وتواصل مسيرتها. ثمة فجوة تستطيع القراءة بمفارقة أن تعبر عنها”.
وكمثال على ذلك، أنه عندما كان يقرأ بيتهوفن والعشاق كانت تعبر في رأسه أفكار مختلفة ليس لها علاقة بالكتاب، مثلا فكر في العشاء. ورغم ذلك لم تعكر هذه الأفكار صفو القراءة.
وتختلف مواصفات القارئ عند بورخيس عن كافكا، قارئ بوخيس تائه في مكتبة، ينتقل من كتاب لكتاب، يقرأ سلسلة من الكتب، وليس كتابا معزولا، يطارد الأسماء والمصادر والإشارات، ينتقل من استشهاد لأخر، ومن هامش لهامش.
أما مواصفات قارئ كافكا، فيقول ريكاردو بيجليا: “يجلس في غرفة ببيت عسكري، في ظلام الليل، ويقرأ أمام نافذة تطل على جسور براغ”.
ويقول ريكاردو بيجليا” أن سؤال ” ما القارئ؟” هو أيضا سؤال حول كيف تصله الكتب التي يقرؤها؟ كيف يُروى المدخل في النصوص؟ إذ أن هناك كتب مقرصنة، وأخرى مسروقة أو موروثة أو منهوبة، وكتب يتم استعاراتها من قارئ لآخر.
قصة كافكا
هل يمكن أن يربط المرء فتاة بالكتابة؟ نعم. وهذا ما فعله كافكا مع حبيبته فيليس باور حين أستطاع أن يجعل منها قارئة. وعوفت ب ” القارئة الملتصقة بالنصوص”. وفي ذات الوقت يعتبر ذلك بنية لأحد أكثر صور القراء. وربما هذا ما أراده كافكا من تلك العلاقة أن يلتقيا في النص المقروء فقط.
ويذهب بيجليا إلى أنه هناك توتر بين فعل القراءة وفعل السياسة، ثمة تعرض ضمني بين القراءة والقرار، بين القراءة والحياة والتجربة. نجده حاضر في الحكاية التي نحاول تشييدها.
وفي ختام ” القارئ الأخير” أوضح ريكاردو بيجليا أن هذا الكتاب لا يعيد بناء مشاهد القراءة الممكنة كلها، أنه جولة تعسفية في بعض طرق القراءة التي تبقت في ذاكرتي.