استطلاع : عبد الحكيم كشاد
إذا اعتبرنا الرواية المكتوبة بلغة أجنبية،رواية عربية وهي الابنة المدللة للفرانكفونية التي انطلقت ضمن رابطة ضمت دول لغة المستعمر وثقافته
وانعكس وجهها الأدبي في الرواية بالذات، كونها الأوسع تعبيرا في سرد قابل لضم كل الأجناس الأدبية الأخرى من جهة وبما قد تطرح من قضايا تظل لصيقة بالشرق من جهة أخرى، ظل الغرب منبهرا بها والنظرة التي تؤكد هذا الجانب الثقافي والمعرفي الحضاري هي نظرة إيجابية بعكس النظرة الدونية التي يجلد بها البعض الذات «غرب ضد شرق» بكل ما يمثّله من هيمنة، كونه أكثر علما وتقدما، وهي وجهة نظر تتماهى سلبا في فقد الهوية من خلال هذه الظاهرة في الأدب خصوصا في الرواية المكتوبة بلغة أجنبية… من هذا المنطلق
هل تعامل الغرب مع الكتّاب الذين أصولهم عربية كحكاّئين ينقلون ما يستهويهم من شرق مازال يحمل تلك الصورة الغرائبية من خيال ألف ليلة وليلة ؟
السّؤال ينطلق من الفرنكفونية ثم يتوسّع نحو الغرب إجمالاً! أكتفي بما يتعلق في الشّقّ الفرنكفوني، وفي الفضاء الفرنسي تحديداً، هو فضاء ثقافي له قدرة على استيعاب لغات وثقافات أخرى، بالتّالي كتابا من أقاص بعيدة، ليس عربا فقط بل من أفريقيا وآسيا وأمريكا، الثقافة الفرنسية لها مرونة في احتواء كتّاب، وتوفير شروط عمل ونجاح للمنتج الأدبي، بخصوص الكتّاب العرب، لا أظن أن النّظرة تقتصر على زاوية ايكزوتيكية، ليسوا بحاجة لكتّاب عرب كي يحكوا لهم عن غرائبيبة المجتمع الذي يعيشون فيه، فقد كتب الفرنسيون أنفسهم في ذات الموضوع، منذ أوجين دو فرومنتن، ورحلاته إلى الشّرق، بالتّالي هناك نظرة أخرى، مثلا لغوية في قدرة الأجنبي عموما وليس فقط العربي في تجديد القاموس الفرنسي، ثم خيار في التّنوع، وهذا التّنوع يفرضه القارئ، فهو قارئ لا يكتفي بما هو موجود، بل يبحث عن المختلف.
وماهي وجهة النظر العربية التي يقدمونها في أعمالهم التي يكتبونها بلغة غير لغة هويتهم ؟.
لا أجد فرقا كبيرا بين ما يكتبه كاتب عربي بلغة غير عربية وآخر يكتب بلغة عربية. المقياس فنّي وليس في طبيعة الموضوع.
كتّاب منطقة الشمال الأفريقي الذين عاشوا خارج أوطانهم وكتبوا الرواية باللغة التي تعلموها وتعايشوا معها، هل يصح أن نقول إنها رواية عربية عن كاتب جزائري أو مغربي مكتوبة بالفرنسية دون أن نقع في تناقض ؟ رغم أن ما يسمى بالجيل الثاني من الكتّاب الجزائريين مثلا خرجوا عن هذا النمط واعتبروا اللغة التي يكتبون بها هي لغة المستعمر وهي وسيلة لنقل وجهة نظرهم في قضايا أوطانهم لنعتبرها رواية عربية منبتا وروحا ؟
و هي وجهة نظر مغايرة عن الجيل الأول الذي غالى في التمسك بهذه الظاهرة تأكيدا على أهمية الثقافة الفرنسية في بعدها الحضاري ولأن اللغة المكتوب بها الأدب هي الوعاء الذي ينعكس نفسيا وعقليا وثقافيا فهل تكون هذه الرواية ضمن الأدب الجزائري رغم أنها موجهة أساسا لقارئ فرنسي؟
حين يكتب ياباني بلغة إنجليزية فهو يكتب رواية يابانية، وحين يكتب أفريقي بغض النّظر عن جنسيته بلغة فرنسية فهو يكتب رواية أفريقية، إلا العربي حين يكتب بغير العربية يصير محل شكّ، أظن أنه يكتب رواية عربية، واللغة لم يخترها بل فرضت عليه لأسباب تاريخية.
إذا كان الجواب بنعم كيف نعتبرهم كذلك وهم المغتربون وقد عاشوا نفسيا وعقليا ووجدانيا بلغة مغايرة؟..
ألا نعيش في حيز جغرافي عربي مغتربين أيضاً؟ هذه أحكام مسبقة، لا صلة لها بالأدب.
كل هذه الأسئلة تظل بغير إجابات قاطعة كونها لم تحدث الفارق، لدينا مؤخرا تجربة أعمال الروائي الليبي هشام مطر في الرواية المكتوبة باللغة الإنجليزية .
هل يصحّ أن نقول عن أدب كتب بغير العربية رواية عربية كتبت بلغة أجنبية أم تعتبر رواية أجنبية تكتب عن موضوع عربي من منظور غربي ؟
بل رواية عربية.
ما أهمية رواج مثل هذه الروايات في الغرب وما تطرحه في الأساس من قضايا تثير الغرب على الشرق؟!
الرواج لا يتوقف على أصل الكاتب عربي أم غيرعربي، بل إن هناك عوامل تقنية وأخرى تجارية، وإذا كنا نعرف عشرات من كتّاب عرب كتبوا بغير العربية، فلابد أن ننتبه أن آخرين كتبوا بلغة أجنبية وفشلوا، وفشلهم كان لأسباب عدم إلمامهم بالفنّ الرّوائي.
كيف قدّمت الرواية وجهة النظر العربية وهل يعتبر الكاتب الفرانكفوني عربيا وهو يقدم روايته لقارئ أجنبي؟
نعم.. هل الكتابة بلغة أجنبية هي فرصة لكاتب من أصل عربي كي يكتب عن قضايا بلده للقارئ الغربي ؟
بكل تأكيد
ماذا فعل الفرانكفرنيون بظاهرة أدب الرواية بلغة أجنبية؟
هناك بيان مهمّ صدر قبل سنوات من بين الموقعين عليه جان ماري غوستاف لوكليزيو يدعو إلى محو التفرقة الأدبية بحسب اللغة، ويقترح مصطلحا جديدا الأدب- العالم، فحين نكتب نحن جزء من هذا العالم ولا ننحصر في زاوية ضيقة منه.
هذه الأسئلة افتتحنا بها الحديث مع أكثر من كاتب وروائي كانت حصيلتها ردود متباينة في وجهات النظر نضعها بين يدي القارئ
إلهام بورابة: كاتبة وروائية جزائرية.
بالعودة للتاريخ، تعامل الغرب مع الكتّاب من أصل عربي كحكّائين مدهشين لأن الشرق كان يستهويهم. وغرائبية ألف ليلة وليلة استلهموا منها منجزات تعلّقت بالسياسة خاصة رغم أن الأمر قد بدا متعلّقا بالإبداع والدهشة. فقد كانت نظرة أوروبا خاصة للأدب العربي على أنه بحث في الخصائص الثقافية للعرب وليس بحثا في آليات الإبداع العربي.
وجهة النظر العربية غالبا ما تكون ضمن رؤية إنسانية للعالم تفتّحا عليه وتخيّلا لعالم أفضل وواقع جمالي منشود. إنّما التفاعل التاريخي مع قضايا سياسية تخص البلد الأم جعل الكتابة تقف موقف النضال خاصة كتّاب الحقبة الاستعمارية رغم أنها كتابات مبدعة لغة وأسلوبا وقد نافست أقلام فرنسية قحّة وأبهرت الفرنسيين الضالعين في الأدب واللسانيات.
كتّاب منطقة الشمال الافريقي الذين عاشوا خارج أوطانهم وكتبوا الرواية باللغة التي تعايشوا معها يمكن تصنيف الرواية التي كتبوها بكونها غير عربية. مادام كتابها قد ذابوا في الثقافة الفرنسية وتشربوا فكرها . لكن يطرح سؤال : وماذا ستضيف رواية عربية لتراث فرنسي عريق في الأدب ؟
لنعلم أن الفرانكفونية في الأصل تعني واقعا معاشا ونمط تفكير وسلوك حياة وليست فقط لغة تواصل، لذلك فكل كتابة ضمن هذا المفهوم هي ليست عربية بالتأكيد. ربّما فرانكفونيّو لبنان هم أكثر انتماء للفرنكفونية بهذه النظرة ،التي تعني بأن الفرانكفونية حضارة يجب الانتساب إليها ، من كتّاب الشمال الإفريقي الذين وبحكم الاستعمار كانت اللغة الفرنسية لغتهم بالقوّة. فاللغة العربية الأم حوربت ومنعت عليهم فمن لم يتعلم الفرنسية ظلّ أميّا. وهذا ما جعل الكاتب الجزائري مالك حداد يقول : «إذا كان البحر المتوسط يفصلني عن وطني فإن بيني وبين أبناء وطني حاجز الأميّة». فبسبب الأمية كان الجزائري لا يقرأ. وحين الاستقلال وتعميم التعليم ظل الجزائري أيضا لا يقرأ فيقول عنه الكاتب نفسه: في كل مرة أفكّر في القارئ المثالي، هذا الفلاح المنشغل اليوم بمأمورية أخرى ، هذا الفلاح الذي أكتب له ولا يقرأ لي».
إذاً، كانت رواية ذلك الجيل ضمن الأدب الجزائري لأنها موجّهة للشعب الجزائري. وليست مطلقا لقارئ فرنسي. إنها رواية لليقظة والتحفيز والتعبئة .
السؤال ، كيف إذاً نعتبرهم جزائريين وهم المغتربون عاشوا نفسيا وعقليا ووجدانيا بلغة مغايرة؟ يجيبنا عليه مالك حداد في جدل فيقول: أتسمّونني جزائريا؟ لا تقولوا ذلك . ألم أحصل في المدرسة على كل الجوائز في الفرنسية وبالفرنسية؟ لقد أراد المستعمر أن أحمل اللكنة في لساني. ولو كنت أعرف الغناء لتكلّمت بالعربية.
أجل ، إنه مأزق الهوية حقيقة والقطع فيه ليس ممكنا إذا قرأناه باعتبار ماكان. إنّما حاليا يمكن أن نقرّر بأنه أدب جزائري لأنّ له قارئه الجزائري الذي يريد أن يعرف حقيقة ماكان يحدث بصورة ثقافية موثّقة في رواية. لأن ماكان يُكتب يخص وطنه الجزائر وشعبه وليس شعوبا أخرى وأمصارا بعيدة.
هل يصح أن نقول عن أدب كتب بغير العربية أنه أدب عربي مكتوب بلغة أجنبية؟
هذا حسب ما يُكتب. فإذا كانت اللغة الأجنبية هي فقط لغة لتنويع الكتابة لكن الروح الكاتبة عربية فالأدب عربي مكتوب بلغة أجنبية خاصة إذا تناول مواضيع محليّة للتعريف بالمجتمع العربي وبالإنسان العربي. أمّا لو كانت المواضيع تخص ثقافة البلد الذي كتبت بلغته فهو أدب أجنبي.
أهميّة رواج مثل هذه الروايات في الغرب فهذا يخضع للهدف منها. فماكان يثير الغرب نحو الشرق لم يعد اليوم قائما. فهناك أغراض أخرى بديل الاستعمار مثل العولمة بما تريده من اللغة الإنكليزية في توحيد أنماط التفكير بما يخدم مصالح الدول العظمى والهيمنة الأمريكية. ولو استبعدنا هذا الاحتمال واقتنعنا بأنه انفتاح سليم وسلمي على الآخر للتعاون والتبادل الثقافي والتعارف بين الشعوب والمشاركة في الثقافة الإنسانية فإنّ رواج هذه الروايات يخدم الدراسات الأدبية والاجتماعية ويكشف عن التمايز والفروق بين تراث الشعوب لأجل التنمية وتفعيل تقدير الحياة بمفهوم العيش معا في مودة ووئام.
خدمت الرواية وجهة النظر العربية برؤية ضبابية أحيانا لعدم إلمام الكاتب بثقافته العربية أو فهمه الخاطئ لعديد الخصائص المتعلّقة بهويّته العربية. فيكتفي بانطباعه الخاص وانعكاس ما يحدث من نوازل على حياته الشخصية مثلما فعلت الكاتبة الجزائرية كوثر عظيمي في روايتها صغار ديسمبر أومثلما فعل الكاتب الجزائري رياض جيرو في كتابه عيون منصور. فالعنوان إشارة لكون النظرة العربية غالبا ما تكون فردية متعلّقة بشخصية الكاتب وليس بوضع أمته العربية الحقيقي. وعلى هذا فإنّ القول بأن الكاتب الفرانكفوني اليوم هو كاتب عربي فإنه قول خطأ. لأنه متأثّر بالتحليل الغربي لقضاياه الخاصة حتى أن الكاتب رياض جيرو نفسه يقول وبالتكرار في روايته عيون منصور :» لقد صار قلبي قابلا لكل صورة». حقيقة يوجد استغلال للكاتب العربي في رؤيته للأحداث بأعين غربية فيكتب بروح غربية.
الكتابة بلغة أجنبية هي فرصة الكاتب من أصل عربي كي يكتب عن قضايا بلده للقارئ الغربي ، هذا مؤكّد. ولنا من الجزائر الكاتب صلاح شكيرو الذي كتب روايته « هل تذكرتني»عن المصالحة الوطنية بعد العشرية السوداء . وهي كما قيل عنها نجمة صغيرة إشارة لرواية نجمة لكاتب ياسين. وهي فرصة أيضا لتصدير صورة العربي المثقف الملتزم بقضايا بلده وبالقضايا الإنسانية عامة. لذلك يتحتم على الفرانكفوني أن يجتهد أكثر لإيصال هذه الصورة معافاة من تأثيرات الرؤية الدونية لابن بلده ووطنه.
ماذا فعل الفرانكفونيون بظاهرة أدب الرواية بلغة أجنبية؟ الأغلب هو الاستفادة الفردية من امتيازات خاصّة. وسهولة دخول هذه الروايات في مسابقات مهمة وبعضها نال جوائز مكّنته من الانتشار والشهرة. لكن الحذر واجب ، لأن الشراء السياسي لذمم الكتّاب الفراكفونيين بما لا يخدم مصالح بلدانهم محتمل جدا.
عبد الرحيم ناصف : شاعر وكاتب مغربي
1/ عند الحديث عن « الأدب الفرنكوفوني»، فنحن؛ في المغرب أساسا؛ نستحضر الثقافة الفرنسية، اللغة الفرنسية أساسا. هذا تمهيد ضروري لاعتبار يتعلق بوجود كتاب مغاربة يكتبون باللغة الإنجليزية يمكن تسميتهم ب» الأنجلوفونيين» ثم هناك مغاربة يكتبون باللغة الإسبانية ؛أساسا الكتاب الذين يقيمون في شمال المغرب في الضفة المواجهة لإسبانيا.أذا كان الأدب المغربي، أو لنقل الرواية المغربية؛ المكتوبة باللغة الإنجليزية مازالت في بداياتها الأولى، فإنه على العكس من ذلك، كتبت نصوص سردية عديدة و كثيرة و متنوعة باللغتين الفرنسية و الإسبانية.
من هذا المنطلق، كيف تمثلنا الإسبان و الفرنسيين؟
للحديث عن هذا التمثل الذي شكلناه للآخر، ينبغي أن أحيلكم على مؤلفات الدكتور «عبد الفتاح كيليطو» و هو واحد من الكتاب المغاربة الذين عاشوا تجربة الكتابة بلغتين..و قدموا قراءة متميزة، بل و نظرية ثقافية حول كتاب «ألف ليلة و ليلة»..و ليس هنا المجال للتوسع في تصورد/ كيليطو لهذه المسألة بالذات ، لكن يبدو أنها تشكل نظرة جديدة في التعامل مع الرواية/الأدب المكتوب بلغة مغايرة.
2/ إنها قراءة ذكية بامتياز، تلك التي استعمل فيها د/ كيليطو نص « ألف ليلة و ليلة» للقول إن هذا المؤلف المجهول النسب؛ كان هو أول اتصال للثقافة الغربية ب «السرد العربيي الكلاسيكي»…
يتتبع كيليطو مسار هذا « الكتاب المجهول» و تطوره من الإقصاء الكلي الذي عاناه داخل البيئة التي أنتجته، أي الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية؛ إلى صيرورته محور اهتمام الآخر الغربي، بل أن يصير هو المحدد الرئيسي في تكوين نظرة عامة و تكريس صورة خاصة ل» السارد العربي»..و للمتن السردي العربي.
من هذا المنطلق، لا ننفي تلك الصورة النمطية عن السارد العربي، بل نؤكد أنها حضرت بإلحاح، يعضدها فيما بعد ما لاقته «مقامات بديع الزمان الهمذاني» و «الحريري» من اهتمام غربي ،خاصة أن المتن الأدبي العربي الإسلامي لم يكن يحبل سوى ب» الشعر» إلى غاية القرن الرابع الهجري..حيث بدأت صورة الأدب في التأرجح و بدأ الشعر في التراجع عن وظائفه السابقة..
« ألف ليلة و ليلة» و «المقامات»..كانتا من أوائل النصوص السردية التي ستساهم في تكوين نظرة محددة عن الحكائين، حمالو الحكايات….
لكن هل بقي الكتاب العرب أسارى هذه النظرة أيضا؟
3/ لا يفيد الجواب بنعم أم لا هنا. يمكن أن نتأرجح بين الموقفين للخروج من الحرج، لكن هذا التأرجح لن يقدم فهمنا لتطور المتن السردي، أي تطور فنون نثرية عربية أساسا مثل : الرواية، القصة،و أجناسهما..
ينبغي الاعتراف أنه لولا هذا الصدام الثقافي مع ثقافة الآخر، انتصاره علينا ثقافيا و حضاريا و معرفيا بعد انتصاره العسكري، لما تطورت عندنا هذه الفنون، و لما أثرت في نتاجاتنا الأدبية شعرا و نثرا..
ربما عاش السارد العربي في بدايات القرن السابق إشكالية الانتماء، الانتماء بكل خمولاته اللغوية، الثقافية، الهوياتية…أي عاش مشكل الهوية بين لغة يتقن الكتابة بها دون أن تكون جزءا من هذه الهوية. مشكل أججه وضع عام اتخذ فيه الآخر ،الغربي صورة المحتل/ المعتدي/ الكافر بينما اتخذ فيه العربي وضعية : الضحية/ المضطهد..
لا يمكن لهذه الثنائية أن تنتج لنا أدبا، رغم أنها استمرت في التواجد بصيغتها الأخرى الأدبية : الكاتب العربي بلغة أجنبية ظل مجرد «حكاء غرائبي» في نظر أصحاب «المركزية الأوروبية»، كاتب «فولكلوري»، نوع من «التروبادور» الذي عبر التاريخ بالصدفة…
هل الأمر كذلك ؟
4/ يحفل التاريخ الأدبي المغربي بأسماء كتاب روائيين كرسوا نظرة «التروبادور» تلك، عاشوا هذا التأرجح بين الانتماء للغة غير لغتهم، و محاولة التنصل من انتماءاتهم الجغرافية على الأقل، التنصل من لغة طفولتهم. ربما هناك استلاب نوعا ما، لكن هناك أيضا هذا المد الذي يخترق منطقة شمال إفريقيا أساسا، هذا الرفض للغة العربية أولا، ثم هذا الرفض لكل ما هو عربي أصلا و محاولة التنصل منه. إنه سؤال الهوية المقلوب، حين يتم التعامل مع اللغة بهذا المنطق الواحدي و الأحادي.
لكن، هناك أسماء عديدة كرست وجودها « المغربي» بلغة الآخر، فرضت تواجدها داخل لغته، بواسطة لغته، لكن باستقلالية شخصياتها، تصوراتها للثقافة، للإبداع..
في الخمسينات من القرن السابق ظهرت رواية « الحضارة أمي» لكاتبها المرحوم إدريس الشرايبي، متبوعة برواية « الماضي البسيط». كان الشرايسبي ابن مدينة الجديدة الكغربية من أوائل من كتبوا و أتقنوا الكتابة باللغة الفرنسية، ثم في السبعينات ظهر اسم المرحوم «خير الدين محمد» الأكاديري الأصل، دون نسيان «إدمون عمران المالح» دفين مدينة الصويرة..
و هي أسماء تجاوزت إشكال الهوية في الكتابة، مستشرفة آفاق أخرى حملتها إلى ..العالمية.
ها نحن إذن أمام كتاب مغاربة عالميين، ليسو فرنسيين رغم أنهم يكتبون بالفرنسية…
5/ العالمية…ألا يجرنا الحديث هنا عن الترجمة ؟
للاطلاع على ثقافة الآخر، كان ينبغي لنا أن نطلع عليها بلغة وسيطة. نعم يمكن اعتبار الترجمة لغة وسيطة، فالترجمة ليست هي التعريب، و تعريب الأدب الغربي هي عملية عصية جدا، مادام أن هناك قيم و كلمات و مشاعر لا يمكن تعريبها..و لكن على الأقل يمكن ترجمتها…لتقريبها من القارئ. إذن نحن أمام نص أدبي أجنبي، مترجم إلى لغة أخرى…لتقريبه من القارئ. إنها لغة توازن و حسابات و مناهج…
ثم اكتشفنا اللعبة، للوصول إلى الآخر، علينا ترجمة «أدبنا» إلى ..لغته، ليتسنى له الاطلاع عليها. إنه في موقع قوة مادام أن ثقافاته، مناهجه، قيمه هي المهيمنة و المسيطرة. مادامت لغاته هي المسيطرة، هو لن يتفضل علينا بقراءة أدبنا بلغاتنا، اللغات التي لم تعد تستجيب لأي شيء…
الآن نحن في مرحلة متطورة ، لماذا لا نكتب بلغته ؟ ما الذي يمنع؟….هل سنتخلى بهذه الطريقة عن هويتنا؟ ما الذي يشكل هذه الهوية التي ترتعب كلما فكرنا في تعلم لغات أخرى؟
ليلى ناسيمي : شاعرة وباحثة مغربية
السؤال عن رؤية الآخر لماذا نكتب بلغة غير لغتنا الأم أو ما ننقل للآخر من محكينا أو ما ينقل لنا من محكيي الآخر يقودنا إلى سؤال أبسط وأعمق لماذا نكتب وما حاجتنا إلى الحكي، خارج ذلك الهاجس التواصلي خارج إطار أننا كائنات حكاءة كائنات خلَقت اللغة لتقتسم ما تفكر فيه وما تحسه وما عايشته مع الآخر أي لتقريب واقعها وفكرها وخيالها من نظرة الآخر فالأدب من قص وحكي وشعر ومسرح هو موروث إنساني يتجاوز تلك النغمة التي ما فتئ البعض يعزف على أوتارها أن الثقافة كعكة تربو باقتسامها ولا مجال لذلك إلا بتعدد لغات الكتابة بعيدا عن مزاعم البعض حين يرى أن المغاربيين مثلا عندما يكتبون بالفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية إنما يتنصلون من لغتهم العربية التي ليست بالضرورة كذلك، وهذه الإشكالية المطروحة على مدى أجيال من الكتاب المغاربة عرفت تجاذبات بين مؤيد ومعارض، المؤيدون وهم قلة لا حجة لهم في ذلك غير تمكنهم من لغة الكتابة الأجنبية و تمكنهم من طرح المسكوت عنه في مجتمعاتهم بلغة قد لا يتمكن منها العامة وبذلك تصير درعا واقيا من ردود أفعال محتملة… والمعارضون يجمعون على أن الأدب المكتوب بلغة غير العربية إنما هو أدب مستلب ولا يخدم ثقافتنا ولا هويتنا ويقزم لغتنا العربية
كان هذا قبل وسائل التواصل الحديثة عندما أصبح أن في إمكان أي كان أن يتعلم اللغة التي يريد وأن يكتب بها دون أن يكون قد استعمر أو فرضت عليه في مؤسسة تعليمية ودون حاجة إلى الإحساس بالذنب اليوم في الصين مثلا يتعلم الصينيون اللغة العربية هل يعتبر الأدب أو الدراسات أو الأشعار التي من الممكن أن يكتبوها بالعربية طمس للغات وللثقافة الصينية
واليوم أيضا نحن نعلم أن اللغة العربية نفسها جاءت إلى شمال إفريقيا مع الفتح أو الغزو الإسلامي أليس إصرارنا على اعتبارها لغتنا الأم غريبا وهجينا ولماذا لا تطرح هذه الإشكالية إلا عند الشعوب التي تدرس اللغة العربية كلغة وطنية ألا يعتبر السؤال هنا في حد ذاته دليلا على الخوف الذي يسكن النفوس من احتمال أي تقدم أو تحديث أو طرح لإشكالية غياب اللغة الأم في مجتمعاتنا تلك اللغة التي طمستها لغة تدعي أحقيتها وحدها في الوجود.
إن اللغة العربية لغة غنية وراقية ولكن اللغات الأخرى ليست بأقل منها غنى ولا تنوعا ومادام هناك تنوع لغوي فإن حاملي فيروس الكتابة لن يسلموا من ضرورة الكتابة بأكثر من لغة ليتأكدوا ويؤكدوا أنهم لن يموتوا مجهولي الآفاق والهوية عديمي القضية
وبالنظر لما قدمه كتاب شمال إفريقيا باللغة الفرنسية نجد أنهم قدموا وقائع ومناخات معاشة داخل مجتمعاتنا، الأديب الطاهر بن جلون مثلا تناول العديد من القضايا بالغة الحدة إنسانية اجتماعية عن المجتمع الذكوري وحرية المرأة وعن الهجرة إلى البلاد المتقدمة وعن أوضاع الإنسان داخل أنظمة منفلتة ، ونفس الأمر بالنسبة لمولود فرعون وكاتب ياسين وآسيا جبار وغيرهم، نرى بما لا شك فيه أن هؤلاء أضافوا إلى الأدب المغاربي وإلى الأدب الفرنسي والتراث الأدبي الإنساني عموما طالما أن الأدب إنساني شامل.