(الفالحة )
زكريا العنقودي
في المول، وبمستطيل يتوسطه مخصص لبيع التوابل والمكسرات والفواكه الجافة والأجبان، وأشياء عديدة أخرى، وزعت هذه السلع بانتظام على الأضلاع الأربعة لذاك العارض التجاري الكبير؛ كان هناك صف طويل لنسوة يقفن مقابل ثلاجات عرض الأجبان، فقد كان هناك تخفيض على خليط الشيدر والموزريلا، وتحديداً بعشرين ديناراً للكيلو الواحد.. صراحة الثمن مغرٍ ويستحق اصطفافهن وما تبع ذلك من كسر لرتابة صبرهن الطويل بالثرثرة.
كنت لتوي وقفت بالجهة المقابلة، وعلى الضلع الذي يعرض عليه زيت الزيتون الذي اقتنيت منه لتراً بثلاثين ديناراً، وبجوار الزيت تعرض أيضاً أصناف من التمور، وقد كان هدفي التالي أن أقتني كيلو من أحد أنواعها.
لم يكن أمامي أحد سوى فتاة أنيقة محجبة، اكتشفت لاحقاً وفيما توالى من أحداث بشكل سريع بعد ذلك أنها بنت بلاد وعيلة ومتكلمانية من طراز رفيع.
كان بيدها كيس من الجبن، فعلمت أنها قادمة من الجهة الأخرى حيث صف النسوة، وكانت تضع أمامها كيساً فارغاً، وتسأل الفتى الذي كان منهمكاً في أعمال أخرى بعيداً عما كانت تعانيه عارضة التمور من كساد ومن عزوف الزبائن.
_ اسمع يا وليد هذا التمر بكم؟؟ وبدون أن يكلف نفسه أجابها بالسعر من مكانه، وفي الوقت نفسه كانت قد تذوقت واحدة من ذلك الصنف ووضعت حبة النوى بكيسها الفارغ. سألته بعد ذلك عن النوع الثاني فأجابها من مكانه أيضاً بالسعر، فتذوقت حبة منه وقذفت بالنواة في الكيس ذاته، ثم سألت عن النوع الثالث والرابع وبالطريقة نفسها عاملت كل الظرف الفارغ للتمرات ورمت بالنوى في الكيس، حتى سألت أخيراً عن النوع الخامس وتذوقت منه، لكن هذه المرة ترك الفتى مكانه وتوجه نحوها متذمراً كونها شغلته عن أعماله الأخرى، وأجابها بأنه بثماني جنيهات ونصف، وعلى عكس تعاملها مع الأصناف الأربعة الأولى تناولت من هذا الصنف أربع تمرات وعلى طلقات متتالية قذفت بنواتها جميعاً بنفس الكيس الذي أقفلته بعد ذلك ووضعته بكيس آخر بيدها، وقالت للفتى:
_ هَيْ سقّدني وراس خوي، واوزن لي من هذا النوع زوز كيلو.
حين انهمك الفتى في تعبئة طلبها من النوع الذي اختارته غادرت مكانها واتجهت صوب صف النسوة على عارضة الأجبان، وأطلت برأسها عليهن ونادت إحداهن:
_ يا فاطمة يا فاطمة، تعالي لقيتلك دقلة معسلة والله ماك لاقيتها في سوق تاني.. لا وبثمانية جنيه ونص بس، غير تعالي ذوقي وبعدين براحتك.
طبعاً وعلى وقع سحر كلمات صاحبتها غادرت فاطمة مكانها واتجهت لعارضة التمور، فناولتها الفتاة حبة تمر تذوقتها فاطمة وأبدت إعجابها من فورها، وأوصت البائع بدورها بأن يزن لها كيلوين تماماً كما رفيقتها، وعادت بعد ذلك لصف الأجبان من جديد.
كنت أصطف بعيداً حتى تنتهي الفتاة الأولى من حملتها الدعائية التي شملتني أيضاً بقولها لي:
_ سامحنى يا وخي شورني عطلتك، لكن قول لي حتى إنت شكلك تبي تمر.
_ إيه.. لكن كملي على راحتك وتوا ناخد.
لم تتركني لراحتى، فأكملت بقولها:
_ وراس وخيي عارفك بتاخده للعويلة، وأكيد حاسب الوالدة، فوته التمر كله وخود من هالنوع وعلى ضمانتي.
وما إن أنهت حديثها معي حتى توجهت بحديثها لسيدة كبيرة بالسن التحقت هي الأخرى بنا وأوصتها بدورها كما أوصتني.
وكما حكيت سالفاً توالت الأحداث سريعاً بعد ذلك، فاقتنيت وعلى مذهب صاحبتنا من الصنف الذي أوصتني به، وأكملت جولتي بالسوق، وحين هممت بالمغادرة مررت بنفس المستطيل بوسط السوق، فوجدت أن الازدحام صار شديداً على عارضة التمور، والبائع الذي كان متفرغاً لأعمال أخرى غير البيع يكاد يسقط من التعب وهو يزن من ذاك الصنف تباعاً للزبائن، وعلى العكس تماماً كان صف الأجبان شبه خالٍ وبالكاد تقف فيه سيدتان.
غادرت السوق مبتسماً، وقد أيقنت أن تلك (الفالحة) قد غادرت قبلي بهيبتها بوقارها بحلو لسانها بل وبحسن نيتها، فهي لم تكن تدري أنها وبعفويتها قلبت الموازين على تلك الطاولة، وأعادت الروح لصنوف التمور التي كانت تعاني من الكساد، وساعدت في أن يخف الطلب والزحام على صف الأجبان رغم التخفيض الكبير على أسعارها.
كنت قد أقفلت حسابي عند الصراف، وخرجت وأنا أردد لنفسي كم هم أغبياء أصحاب هذه الأسواق؛ فكم تكلفهم الدعايات التي يبالغون في تكاليفها وفي التقليد فيها كثيراً ، مما يجعلها وللأسف ابعد ما تكون عن روح الليبيين، وإن حدث وشاهدوها تمر عليهم مرور الكرام وتغادرهم بلا أثر لا تأثير،
في حين لم يكلف الأمر صاحبتنا التي ليس لها مصلحة في شيء لتقلب الموازين التجارية في المول الكبير وتحديداً على ذلك المستطيل إلا حديث ليبيات معتاد وثرثرة لنسوة كن يقفن في صف طويل على عارضة لبيع الأجبان.