منصة الصباح
طارق القزيري

الغيطة الليبية وفرقة اجدابيا: العفوية والتوثيق الاجتماعي والتحديات

طارق القزيري

يُعدّ فن الغيطة من أبرز تجليات الموروث الموسيقي الشعبي في شرق ليبيا، حيث يحتل مكانة راسخة إلى جانب فن المرسكاوي شعبيا. جذور هذا الفن تعود بحسب كثير من الباحثين إلى أصول أفريقية عميقة، إذ تطورت الغيطة من رقصة قديمة عُرفت باسم “الدنقة”، قبل أن تتحور وتنتشر في بنغازي خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.

 

ويُشير بعض الباحثين إلى أن طبرق شهدت نشأة مبكرة لهذا الفن قبل قرون عدة، مما يُرجّح أن الغيطة تمثل تطوراً لجذر إيقاعي أفريقي انتشر في المنطقة الشرقية عبر مسارات متعددة. لكنها ارتبطت تاريخياً بفئة “المزن” في زرائب الصابري ببنغازي، وظلت حاضرة في طقوس الزّفّة ومواسم مزارات الأولياء، قبل أن تصبح عنصراً أساسياً في الاحتفالات الكبرى والانتصارات الرياضية.

 

تتميز الغيطة بإيقاعها السريع الذي يوصف بالعنيف، وهي سمة جعلتها تُقارن وظيفياً بموسيقى الهارد روك الأمريكية من حيث الكثافة الصوتية والطاقة الديناميكية العالية.

يعتمد البناء الأدائي على نظام النداء والاستجابة، حيث يتولى “المسارك” أو المنشد قيادة الفرقة وإطلاق النص الشعري، بينما تتلقفه مجموعة “الكومبارس” بالترديد والتصفيق العنيف. يُشكّل التصفيق الجماعي جزءاً عضوياً من النسيج الإيقاعي، وليس مجرد مرافقة هامشية، إذ يعمل كمُضاعف للقوة الصوتية يدفع الأداء نحو ذروته.

وقد اعتمدت الغيطة تقليدياً على آلات الطبل والدف والدربوكة والزكرة، قبل أن يدخل الأورغ الإلكتروني في النصف الثاني من القرن العشرين ليُضيف بُعداً جديداً للتكوين الصوتي.

القيمة التعبيرية للفن الشعبي عموماً، والغيطة خصوصاً، تتجاوز البُعد الجمالي لتؤدي وظائف نفسية واجتماعية عميقة. فالإيقاع العنيف والسرعة الفائقة يُتيحان للمشاركين تفريغ الطاقات المكبوتة والتعبير عن الهوية الجماعية بكثافة قصوى.

يشهد لهذا ربما نشأة هذا الفن في بيئة شعبية غير مصقولة كلاسيكياً، مما جعله يعتمد على المباشرة الإيقاعية كأداة للتعبير الجماعي دون تعقيدات هيكلية.

هكذا قد تُمثل الغيطة آلية تنفيسية فعّالة ( مثل الكشك أيضا) حيث يُحقق الأداء المشترك حالة من النشوة الجماعية تُعرف محلياً بـ”البسط” أو الانبساط. في مماثلة مع الاختلاف – طبعا – مع  الطقوس الصوفية لاستحثاث حالات الوجد والجذب الروحي، نظراً لقدرتها على رفع مستوى الطاقة الحركية بسرعة فائقة.

وعلى المستوى الاجتماعي، شكّلت الغيطة رمزاً للفخر والانتماء المحلي، حتى أن أحياء بنغازي تنافست على صدارة هذا الفن، مما يعكس دوره في تشكيل الهوية الجماعية للمجتمعات المحلية.

في هذا السياق، برزت فرقة شباب اجدابيا ككيان فني محوري أعاد هندسة الغيطة وأخرجها من دائرة الأداء العفوي إلى التقعيد المنهجي.

ولا بد من ذكر الطبيعة الخاصة لمنطقة إجدابيا، أين تعد نقطة تميز ثقافي، فهي عاصمة الشعر  الشعبي، وتعيش لحظات مسرحية مميزة – ولو على فترات لأسباب اقتصادية ومؤسسية معلومة كغيرها، لا داعي للتعمق فيها – يشهد لذلك أعمال مثل شط الحرية، المسلسل الأكثر متابعة تقريبا في تاريخ الإنتاج التلفزيوني الليبي.

فرقة شباب إجدابيا ليست مجرد مجموعة عازفة، بل تمارس دور المهندس الثقافي الذي نظّم هذا الفن ووثّقه بصورة احترافية. يتجلى أثرها الوظيفي في ثلاثة محاور أساسية: الدمج الآلي المنهجي، والاحترافية الإنتاجية، والتوسع في الوظيفة الاجتماعية.

فقد استخدمت الفرقة آلة الأورغ بصورة منظمة لتوحيد الألحان وتوزيعها، مما نقل الغيطة من الإيقاع الخالص إلى التكوين الهارموني المُحدَّد. وأدى ارتباطها بشركة أنتاج محددة للتوزيع الفني إلى تحويل الفن من أداء محلي عفوي إلى منتج قابل للاستهلاك الجماهيري والتوثيق الرقمي.

يُمثل إدخال الأورغ نقلة نوعية في بنية الغيطة، إذ أتاح الضبط الزمني الدقيق والتوزيع الهارموني المُسبق. كان الارتجال سمة بارزة للغيطة التقليدية، حيث يصعب توحيد النغمة والتوقيت عبر الفرق المختلفة. لكن الأورغ منح فرقة شباب أجدابيا سلطة فنية لإنشاء قواعد أدائية ذات نسق ثابت قابل للتكرار والتسجيل.

هذا التنظيم جعل الأداء قابلاً للتدوين والنقل بكفاءة عالية، وحوّل النمط الإيقاعي الذي كان غير مفهوم لغير المتخصصين إلى لغة فنية مُيسّرة للجمهور العام. كما وسّعت الفرقة الوظيفة الاجتماعية للغيطة لتشمل مناسبات الشباب المعاصرة، كاحتفالات التخرج الجامعي، مما جعل الفن مرتبطاً بالهوية الشبابية الحديثة بدلاً من انحصاره في الطقوس التقليدية.

استشراف مستقبل فن الغيطة يستدعي التفكير في آليات الحفاظ على توازن دقيق بين التحديث والأصالة. فمن جهة، أثبتت تجربة فرقة شباب أجدابيا أن الدمج التقني ممكن وناجح تجارياً، مما يفتح الباب أمام الفنانين الشعبيين في أنماط أخرى لتبني نماذج مماثلة.

ومن جهة أخرى، ثمة خطر من طغيان الآلات الإلكترونية على البنية التقليدية الحية، خاصة الإيقاع البشري المتمثل في التصفيق والترديد الجماعي الذي يُشكّل جوهر الغيطة.

يتطلب الأمر توثيقاً “إثنوموسيقياً” دقيقاً لتقنيات الأداء التقليدية، مع مواصلة التطوير التقني بما يُعزز الكثافة الصوتية دون إلغاء التفاعل البشري.

ويبقى التحدي الأكبر أمام الغيطة المنظمة هو إثبات استدامتها كنمط مؤسس وليس مجرد موجة عابرة مرتبطة بجيل بعينه، خاصة أنها وُصفت بأنها موسيقى شبابية بامتياز.

نجاح هذا الفن في الحفاظ على زخمه رهين بقدرته على التجدد المستمر مع صون جوهره التعبيري والتنفيسي الذي منحه مكانته في الوجدان الشعبي الليبي.

  • المقال مقتبس إجرائي كجزء من باحث للكاتب عن فن الغيطة فرقة شباب أجدابيا نموذجا.

شاهد أيضاً

د. علي عاشور

تَعْنِيفُ النِّسَاء… ذُرْوَةُ البَلاءِ

لم تكن ليبيا يوماً بلداً يعادي النساء، بل على العكس تماماً، كان احترام المرأة جزءاً …